الأربعاء 2018/11/21

آخر تحديث: 00:02 (بيروت)

قصر عدل بعلبك كأنه عقاب للقضاة أيضاً

الأربعاء 2018/11/21
increase حجم الخط decrease

قد يعتقد البعض أن أسوأ ما يمكن لـ"القضاء" اختباره، وهو المفترض به الحكم بالعدل بين المواطنين، هو أن يهلل لتوفر مرحاض في "قصره"، يلبي حاجة الناس في أوقات انتظارهم الطويلة، أمام مكاتب القضاة المكتظة.. أو أن تصبح أقصى طموحاته توفّر المياه الساخنة والتدفئة للموقوفين في النظارات، والمنتظرين في أروقة مكاتب القضاة.. أو أن تتوفر للقاضي أكثر من شمعة للنظر في القضايا المتراكمة بين يديه.. أو فسحة يركن فيها سيارته عند وصوله إلى مركز عمله. ولكن مهلا، هناك أسوأ من كل ما ذكر، وهو أن تتأمن كل هذه الأمور بجهود شخصية، تبذل من قبل قضاة هم "مواطنون" في الدرجة الأولى، ومن دون أن يكبّدوا خزينة الدولة ليرة واحدة، وأن تكون مع ذلك السلطة السياسية متوجسة من مبادراتهم، ولا تستطيع أن تخرجها من إطار مناوشاتها السياسية، أو تقاتلها على المواقع.

 

البيروقراطية القاتلة

ليس الحديث عن سوء حال "قصر العدل" في بعلبك سبقا صحافيا. فمنذ فترة يشكو المحامون والمواطنون الذين يقصدونه، من تراجع الخدمات الأساسية المطلوبة فيه، بشكل يسيء إلى هيبة القضاء، وينعكس سلبا على إنتاجية القضاة. ولكنه عاد إلى الواجهة مؤخرا، مع الوقفات التضامنية التي نفذت دعما لقاضي التحقيق الأول فيه، حمزه شرف الدين، الذي غلب مع تربيته العسكرية، روحية "المبادرة الإيجابية"، متخطيا "البيروقراطية" القاتلة في توفير بعض الخدمات الأساسية، في محاولة لسد "الفراغ" الذي خلفه غياب المؤسسات الرسمية وتعاميها عن واقعه المزري، منذ قررت الدولة أن تنتقل بـ"عدلية" بعلبك من السراي الحكومي إلى مبنى مستأجر قبل نحو 25 سنة.

 

إذاً هو ليس قصراً على الإطلاق، بل مجرد بناء من أربعة طبقات، لا يزال طابقه الرابع ينتظر إنشاءات قاعات المحاكمة وأقواس العدل، الموعودة منذ تاريخ استئجاره. وفيما الدولة ومالكي المبنى يتقاذفون المسؤولية حول استكمال البناء، ترتفع كلفة استئجاره، إلى حد وصلت مؤخراً إلى 71 ألفاً و500 دولار، كان يفترض أن تتيح للمستأجر أيضا الاستفادة من قطعة أرض مجاورة كموقف للسيارات، إلا أن أهالي الحي وضعوا اليد عليها منذ أكثر من عشرين سنة، ولم يتسنّ لقاض أن يركن فيها سيارته، حتى استعيدت مؤخرا بقرار لامركزي أيضاً، ومن دون أن تحرك الوزارات المعنية ولو طرفاً لإستعادة الحقوق.

 

الصورة المقززة

في الطابق السفلي للمبنى، يُلاحظ أخيراً ورشة تأهيل المراحيض التي شارفت على نهايتها، بعد الصورة المقززة، التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي لواقع مراحيضها سابقاً.

 

التقاط الصور ممنوع داخل القصر، وإذا تسنّى لصحافي أن يختلس واحدة، تعقبه الموظفون قبل القوى الأمنية، خوفا من أن يعاقبوا بإنذارات تأديبية من وزير، كما جرى قبل أيام، عندما حمّل وزير العدل مسؤولية الإهمال في عدلية بعلبك لعمال التنظيفات واتهمهم بالتقصير.

 

ولكن عمال التنظيفات لا يمكنهم أن يبتدعوا سحراً في إبقاء المبنى بمظهر لائق، وحتى لو بذلوا الجهود الكافية لذلك، فلن يكونوا قادرين مثلا على إزالة مشهد مستوعبات المازوت، المتراكمة على أدراج الطوابق، بسبب ضيق المبنى بها، ولا أن يعيدوا ترتيب الخزانات المتناثرة بالأروقة ونقلها إلى غرفها المناسبة، ولا أن يزيلوا مشهد قوارير الغاز التي تذكر بأيام الملاجئ، والتي يستخدمها الموظفون في غلي القهوة والشاي على أبواب الغرف المخصصة لمكاتبهم.

جل ما يمكنهم أن يفعلوه، هو أن يبقوا ممسكين بمكنسة، تحاول أن تبقي المبنى نظيفاً، وسط لامبالاة من يستسهلون رمي أعقاب سجائرهم على الأرض..

 

قاضيان منفردان

في الطابقين الأول والثاني للمبنى، بالكاد يستطيع إثنان أن يسمعا حديث بعضهما بعضاً، بسبب زحمة المنتظرين على أبواب القضاة. مكتب قاضي الجزاء يبدو الأكثر اكتظاظاً بينها. وهنا لا خصوصية تحترم الحق "الإنساني" للموقوف بأن لا يجري اقتياده وسط الجمهور.

 

تبدو الملفات المتراكمة على مكاتب القضاة أثقل من أن يتحملها الطاقم القضائي والوظيفي الموجود. فوفقاً للمصادر، ومع أن "عدلية" بعلبك هي الأكثر تحمّلًا للملفات، لا يوجد فيها سوى قاضيين منفردين، وكذلك الأمر بالنسبة لقضاة التحقيق. قد يعود ذلك إلى المركزية القاتلة التي درجت السلطات السياسية على اعتمادها، من دون أن تراعي حاجات الأطراف. لكن المسؤولية يتحملها أيضاً - وفقا للمطلعين - القضاة أنفسهم، الذين يسارعون للوساطات حتى تأتي تعييناتهم قريبة من أماكن سكنهم، ويحاول الكثيرون منهم في المقابل أن يبعدوا عنهم "كأس" التعيين في بعلبك، لما للمحافظة من سمعة سيئة تفوق واقعها. والنتيجة أن قصر عدل بعلبك عاجز بطاقم بشري لا يشكل خمس حاجته وفقا للمطلعين.

 

 مبادرات فردية

لا ينظر القضاة في المقابل بالقضايا في قاعة محكمة، وانما في مكاتبهم الخاصة، التي تشير إلى بعضها لافتات مكتوبة بخط اليد.

 

قبل مدة انقطعت الكهرباء عن هذه المكاتب، فاضطر القضاة للنظر بالقضايا على ضوء الشموع. لم يتأمن النور استجابة للحملة الاعتراضية التي شنها محامون، بل كما تشير المصادر بفضل الاشتراكات الخاصة بالمولدات، والتي تكبد كلفتها عناصر قوى الأمن، الذين يضطرون للمبيت في قصر العدل خلال تأديتهم واجب حمايته.

 

ومع ذلك ثمة بارقة نور على أبواب هذه المكاتب، تمثلت من خلال تأمين مدفئتين تقيان المنتظرين من برد البقاع القارس، بعد أن ارتأى قاضي التحقيق حاجة لذلك. وهذه ليست سوى واحدة من مبادرات فردية أخرى برزت في عدلية بعلبك، لتسهيل امور المواطنين، كمثل السعي لإستحداث صندوق للمالية في الطابق السفلي، شكل حاجة منذ نشأة قصر عدل بعلبك، حيث كان المواطنون يضطرون لأن يقصدوا إما زحلة أو الهرمل لتسديد غرامات السير.

 

الهروب من المدينة

وقد جاء تجهيز الصندوق بهبات مباشرة قدمت إلى قصر عدل بعلبك، من بلديات وجمعيات أهلية وغيرها، بعضها عيني والبعض الآخر نقدي، وكادت تتسبب للقاضي شرف الدين بأزمة مع السلطة السياسية، خصوصا عندما اتهمته أقلام صحافية بإدارة "دولته" الخاصة، داخل قصر عدل بعلبك، لولا النيات السليمة التي أحاط بها شرف الدين هذه الهبات، متخطيا مجددا البيروقراطية الإدارية في قبول بعضها، بإنتظار إنجاز الأعمال الضرورية داخل المبنى.

 

أتاحت هذه الهبات لقاضي التحقيق أيضاً، أن يطلق العمل مؤخرا بإنجاز الطابق الرابع بقاعات المحاكمات، مستعينا بالخرائط الموضوعة لذلك منذ سنوات، ما من شأنه أن يخلق بيئة أفضل لتسيير أعمال القضاة، خصوصاً أن لا ملامح واضحة لإمكانية الانتقال بمركز العدلية من مبناه المستأجر، إلى حيث وضع له حجر الأساس منذ مدة. وذلك ليس فقط بسبب غياب الإرادة السياسية لتحسين علاقة أهل بعلبك بالمؤسسات الرسمية، إنما بسبب تحفظات البعلبكيين على الموقع الجديد المقترح للانتقال بمؤسسات الدولة إلى محلة "عمشكي"، واتهامهم الدولة بهجرة وسط المدينة، إلى جرودها المعزولة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها