السبت 2015/09/26

آخر تحديث: 12:26 (بيروت)

رصيف الحمرا: "جزر رصيفية" ومجموعات انتماء

السبت 2015/09/26
رصيف الحمرا: "جزر رصيفية" ومجموعات انتماء
مع "إستملاك" المجموعات المختلفة لهذا المجال العام تتعزز النزاعات بينها (ريشار سمور)
increase حجم الخط decrease

"- وين السهرة اليوم؟
-على درج الدومتيكس".

درج "الدومتيكس" هو المقصد اليومي لمجموعة من الأصدقاء، الذين إستعاضوا عن المقاهي والبارات بالشارع. فتحول الرصيف وخصوصاً الدرج المتواجد بجانب متجر "دومتكس" في الحمرا إلى مكان تسكعهم الليلي، بهدف إحتساء البيرة وغيرها من المشروبات. إلا أن "الدرج" ليس مكان التسكع الوحيد في الحمرا، التي تتضمن "جزر رصيفية" عديدة، تضم مجموعات مختلفة من الناس، ويمكن تقسيمها إلى مجتمعات مصغرة.


الدرج
لا يقصد زكريا (22 سنة) درج "الدومتيكس" من دون قنينة البيرة. ينظر إليها ويقول "نبدأ بقنينة كهذه، ومن ثم قد ننتقل إلى مشروبات أقوى، فيصل بنا الحال إلى أن نسكر على هذا الدرج". يأتي زكريا إلى هذه النقطة من الحمرا منذ خمس سنوات. إلا أن زياراته إلى هذا المكان أخذت تقل، منذ سنتين. وعن سؤاله عن السبب، بجيب زكريا "الناس يمرون من هنا، وينظرون إلينا كأننا زعران. فبات هذا المكان مرتبطاً بوصمة عار. ولذلك أسبابه، ففي حين كان من المتوافق عليه أن هذا المكان هو لإحتساء الكحول، أخذ بعض الشباب يتعاطون المخدرات فيه. وقد قبضت الشرطة على أحدهم مرة، فصارت تأتي شرطة البلدية يومياً إلى هنا، ويقضي عناصرها الليل على الدرج".

أما الأسباب التي كانت تدفع بزكريا إلى هذا المكان، فهي أن "إحتساء البيرة هنا تكلفنا ألفاً أو ألفي ليرة، في حين أنها ستكلفنا في أي مقهى خمسة آلاف ليرة على الأقل". لكنّ السبب ليس فقط مادياً، بل له بعد اجتماعي أيضاً. فبحسب زكريا "هذا المكان يتقبل أي شخص، لو كان مظهره غريباً وغير مقبول في أي مكان آخر".


موقع الـ"metal heads"
في زاوية أخرى من هذا الشارع عالم آخر، هو عالم محبي "الروك" و"الميتال". معظم رواده هم شباب وفتيات بثياب سوداء، عليها صور أشهر فرق الروك. تملأ وجوههم الأقراط، وأجسادهم الأوشام. هم يتسكعون هناك، مع آلاتهم الموسيقية، منذ عشر سنوات، وفق عادل (24 سنة) الذي مضى على إرتياده المكان سبع سنوات. "يتسكع الناس في العادة في المقاهي أو في المنازل. ليس لدينا المال الكافي لصرفه في المقاهي. ولا أحد مستعد لإستقبالنا في بيته، وذلك بسبب عزفنا للموسيقى".

يتخطى الأمر بالنسبة لعادل مسألة التسكع وشرب الكحول ليكون موضوع إنتماء. فهذا الرصيف هو المكان الذي يقصده "لأجد من يشبهني، فكلنا هنا من ذات الخلفية، ويجمعنا رابط قوي هو الموسيقى". يقر عادل أنهم لم يجربوا يوماً الإختلاط بصنف آخر من الناس، فـ"نحن نفرح ببعض، وقد يمر أحد مختلف على هذا المكان لكنه سرعان ما يرحل". يرجع إنعزال هؤلاء الشباب في هذا الموقع إلى كون "الآخرين يعتبروننا شواذاً، لذلك نفضل الجلوس وحدنا، مع بعضنا".

لعادل ذكريات عديدة في هذا المكان. فهو نام فيه أكثر من مرة، اذ "أضع المحفظة تحت رأسي وأنام". كما أتى إليه في مواعيد عاطفية ثلاثة. "كثيرون يمضون مواعيدهم العاطفية هنا"، وفقه. لا يمنع المطر عادل وأصدقاؤه من المجيء، فـ"مظهر المطر من هنا رائع". إلا أن العز الذي شهده هذا الموقع بات من الماضي. "كان يجلس هنا ما يقارب الثلاثين شاباً وصبية. منهم من تزوج ومن إنشغل في وظيفته. قصوا شعرهم ولحاهم وما عادوا يأتون. أصبح المكان للجيل الجديد، لكنه لا يضم الكثير من محبي الروك، كما في السابق".


موقع الـ"break dancers"
"أشعر أني حرة في الشارع، أشعر بالألفة. أشعر بالأمان". قد تكون هذه العبارات التي إستخدمتها فاتن (22 سنة) لوصف الشارع، هي نقيض ما يمثله الشارع بالنسبة لمعظم الناس، خصوصاً النساء.

تشكل فسحة من الرصيف، قرب مسرح المدينة في الحمرا، مقصداً يومياً لفاتن منذ سنة، للتسكع مع أصدقائها وممارسة رقص الـbreak dance. تأتي إليها من الضاحية، يومياً، منذ قدومها من سوريا، من الخامسة بعد الظهر حتى الثانية عشرة ليلاً. أصدقاء فاتن الذين يأتون إلى هذا المكان هم أيضاً سوريون، تتراوح أعمارهم بين 16 و30 عاماً، ومضى على تسكعهم في المكان نحو أربع سنوات. يقول محمد، أحد أفراد المجموعة، "هذا الشارع هو بيتي الذي لا أشعر فيه بالغربة عن وطني". وتضيف فاتن: "في البيت أشعر بالغربة، أحب المباني والسيارات والناس، وأكره الهدوء". أما بالنسبة لروشكا، شقيقة فاتن، فالشارع "ساعدني على تجاوز صعوباتي في التواصل مع الناس".

تحكي المجموعة عن مواقف تعرضت لها أثناء تسكعها في هذه النقطة. "كان يأتي أشخاص، من خارج الحمرا، ويرمون علينا زجاجات البيرة لأننا نرقص"، يقول محمد. ويسرد آليكس حادثة أخرى، اذ "مرة قبض علينا الدرك، فقط لأننا كنا نرقص. فأخذنا نضحك ونأخذ صور سيلفي. لم نخف. فنحن نرقص فقط، ولا نقتل". إلا أن حوادث كهذه، لم تهدد الأمان الذي يشعر به هؤلاء الشباب، لأنهم مجموعة. "نحن دائماً مع بعض، لذا لا يتعرض لنا أحد"، وفق فاتن.

أما عن كونهم سوريين في شارع لبناني، فيقولون "لم نعد نشعر أننا غرباء هنا. بل في هذه النقطة بالذات، اللبنانيون هم الغرباء". ويضيفون ممازحين "نحن هنا بمثابة عامل جذب للسياح. نحن نمارس دعاية سياحية للبنان". ويختمون "لن نغادر هذا المكان إلى أن يطردونا طرداً. فبعد فرض قوانين التأشيرة والكفالة وعقد السكن (إلخ..)، لم يعد مستغرباً أن يقولوا لنا ارحلوا من الشارع".

أما عن العلاقة بالمجموعات الأخرى داخل الحمرا، فتنفي المجموعة أن تكون قد إختلطت معها، خصوصاً مجتمع الـmetal heads، فوفق محمد "هم لا يأتون إلى هنا أبداً. ومع أن المكان يجذب الكثير من الناس للتوقف والتفرج علينا، لكنهم سرعان ما يرحلون، ولا يبقى سوى من يشبهنا".

مع "إستملاك" المجموعات المختلفة لهذا المجال العام، تتعزز النزاعات بينها حول من له الأحقية فيها. ففي هذه النقطة بالذات، يوجد أيضاً مجد. وهو شاب لا يجلس فقط في الشارع وإنما يعمل فيه أيضاً، فيصنع الأساور والضفائر الملونة للمارة. وفق رواية مجد، هو من إحتل أولاً هذه المساحة، التي يسميها البلاطة، لا بل "كنت أجلس قرب ستاربكس منذ سنتين، فجلسوا هناك، فهربت إلى هنا، فلحقوا بي".

دفع ذلك بمجد إلى نقل نشاطه "إلى مار مخايل، ولم أعد أتسكع في الشارع إلا حين يغيبون". وعن سبب إزعاجهم له، يقول مجد "يجتاحون مساحتي الخاصة، ويزعجون زبائني". لكن بالرغم من ذلك، يبقى الشارع مكان مجد المفضل. ورغم سعيه للهجرة إلى أوروبا يؤكد "سأجد بلاطة في أوروبا، وأجعلها بيتاً لي". السنوات الثلاث التي أمضاها مجد في الشارع، دفعته إلى تكوين إستنتاجات في شأن من يلجأ إلى الشارع، فيصنفهم كالتالي "نسبة قليلة منهم من المثقفين، ثم هناك الزعران الذين يرون الشارع فرصة سهلة لممارسة الزعرنة، والمحزبين الذين يدعون السلطة ويعانون من النقص ما يدفعهم إلى إثبات قوتهم في الشارع، وأخيراً من لديهم طاقة وحاجة للكلام فلا يجدون غير الشارع لإفراغها".


* جزء من ملف تنشره "المدن" عن "استعمالات الرصيف"

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها