هي غرفة من خراب. مظلمة. موحشة. تحت الأرض. ندخلها، فنشتم رائحة الرطوبة. نشعر بالإختناق، وكأن الجدران ستطبق علينا، وثقل الغرفة، بل المبنى بأكمله، سيهوي على قلوبنا. المكان بالطبع ليس مناسباً لمن يعانون الكلاستروفوبيا (رهاب الأماكن الضيقة). تزداد حدة هذا الرهاب حين يغلق الباب وراءنا بقوة، مؤكداً إنقطاعنا في الملجأ عن العالم الخارجي. لا رجوع بعد الآن. نأخذ ما تطاله أيدينا من كراسٍ خشبية، نستريح عليها، في حين تعلو أصوات القصف في الخارج.
ليست هذه سوى عينة من تجربة المكوث في ملجأ. إلا أنها هذه المرة لم تكن حقيقية، بل كانت رحلة تجريبية داخل ملجأ وهمي، في إطار عرض وثائقي تفاعلي عن الملجأ. تجربة الملجأ التي دامت ساعة من الزمن، هي من تنظيم "كنوزروم" و"هنريك بول ستفتونغ"، افتتحت في الواحد والعشرين من هذا الشهر وتستمر حتى الرابع والعشرين منه. تعيدنا هذه التجربة إلى سنوات الحرب اللبنانية وتحدثنا عن تايخ لبنان الباطني. والوثائقي هو عبارة عن شهادات وذكريات ثلاثة أشخاص عاشوا تجربة الملجأ.
العريس
احدى شخصيات الفيلم رجل في منتصف العمر، عايش الحرب حين كان عريساً. تركزت ذكرياته عن تلك الفترة على أحداث طريفة تتعلق بعلاقته مع خطيبته/ زوجته، كزيارة بيت حمويه عند إشتداد القصف لكي يضطر للبقاء عندهما. أو إمضاء الفترة الأولى التي تلت زواجه، في الملجأ، مع عدد من العائلات الأخرى. وقد لخص الرجل حياته بالإنتقال من ملجأ إلى آخر، "كان هناك ملجأ الخطوبة، وملجأ الزواج، وملجأ الولادة، هذه مراحل الحياة".
قارئة القصص الرومانسية
الشخصية الثانية هي إمرأة كان أنيسها الأول خلال الحرب هو الكتاب، وليس أي كتاب. وهي اليوم تبدي خجلاً من نوع الكتب التي كانت تقرأها "بالآلاف". وهي كتب الحب والرومانسية "التي كانت تأخذها إلى الملديف حيث تلتقي البطلة بشاب وسيم، وحيث يملك جميع الناس المال، وحيث لا حرب"، وفقها. "هذه الطريقة الوحيدة لتحمّل المكان الذي كنا نعيش فيه".
تحدثت الشخصيات جميعها عن تعاون الناس أثناء الحرب. ففي الملجأ لم يكن هناك ممتلكات خاصة، كان الطعام الموجود للجميع، وكان من يملك الكهرباء "يمد شريطاً" إلى جيرانه. لكن هذا التأقلم بالنسبة "لقارئة القصص الرومانسية" ليس دائماً إيجابياً. "فقد كان حرياً بنا أن نطالب الدولة بتأمين الكهرباء وباقي المستلزمات عوض التأقلم بهذه الطريقة الإبداعية".
الكاتبة
إحدى شخصيات الوثائقي كاتبة تستمد موادها من قصص الحرب والملاجئ. عند سؤالها عن سبب تركز أعمالها على هذا الموضوع، أجابت: "إنها المادة الخام التي أعطتني إياها الحياة". تعتبر الكاتبة أنها خبأت ذكرياتها في صندوق وأحكمت إغلاقه إلا "أنني أسترجعها كلما لامسها شيء من الحاضر".
في أيام الحرب، التي كان يخط قصصها الطابع الجماعي، تلقي الكاتبة الضوء على قصص الأفراد الخاصة، حتى تلك الخيالية منها، التي تحدث في داخلهم، من أفكار وأوهام ورغبات. فتذكر قصة مراهق، كان سعيداً بالنزول إلى الملجأ الذي سيجمعه بالفتاة التي يحبها. بالرغم من مرارة الواقع العام، كان سعيداً لأن لديه واقعه الخاص. وصفت الكاتبة ذلك بالـ"الآلية الدفاعية".
تلا عرض الفيلم، مشاركة الحضور لذكريات متعلقة بتجربة الملجأ. تشابهت ذكريات الجميع إلى حد كبير، وكان وجه الشبه الأول هو عدم جهوزية الملاجئ التي كانت تصل مدة بقائهم فيها أحياناً إلى أربعة أيام. فهي في معظم الأحيان لم تكن ملاجئ بل حولت كذلك. فقد حول البعض كاراج سيارة إلى ملجأ، بينما إختبأ البعض الآخر في حمام أو كوريدور. وقد كان معظمها يفتقد إلى حمام أو تهوئة مناسبة، إذ تركزت أكثر الذكريات سلبية على صعوبة قضاء الحاجة وعلى تحمّل رائحة المكان. وقد كان في الغرفة صندوق يحوي مستلزمات كانت ترافق الناس أثناء هروبهم إلى الملجأ، ومنها المعلبات والراديو وأشرطة موسيقى (منها شريط لزياد الرحباني).
إن هدف هذه التجربة، وفق ما قالت مخرجة الفيلم تمارا قبلاوي لـ"المدن"، "جمع المعلومات عن ذكريات وتاريخ اللبنانيين لتوظيفها في بحث تنجزه مونيكا هالكورت، وهي صحافية وباحثة مقيمة في لبنان، عن تاريخ بيروت الاجتماعي". وقد تحدثت المخرجة عن الحاجة لكتابة تاريخ المدينة وصراعاتها بتجارب ناسها، "إذ أن التاريخ الذي يركز على السلطة التي لا معنى لها سيصيبنا باليأس".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها