الثلاثاء 2015/03/17

آخر تحديث: 14:31 (بيروت)

نساء الريف التونسي: نحو كسر طوق التهميش

الثلاثاء 2015/03/17
نساء الريف التونسي: نحو كسر طوق التهميش
يرّكز "أمل" على النساء القاطنات في المناطق الفقيرة والريفية المهمشة
increase حجم الخط decrease
لن يجد الناظر إلى خريطة تونس بلدة أزمور، شمال شرقي البلاد. فالمنطقة هذه تحجبها المناطق والمدن التي تفوقها حجماً وكثافةً سكانّية. أزمور غير مرئية، حال سكانها وسكان ريفها، ولا سيما النساء، اللواتي يشعرن بأنّ الإهتمام الرسمي والمجتمعي بأحوالهنّ وحقوقهن غائب، وبأنهن معزولات عن محيطهنّ. إذ يضطر المتنقل من ريف أزمور إلى وسط البلدة ومنها إلى مدينة قليبيا المجاورة، أو بين أريافها، الى قطع كيلومترات عديدة سيراً على الأقدام عبر مسالك زراعية غير معبّدة، لا تغطيها أي وسيلة نقل عامة، ولا تدخلها السيارات ولا حتى وسائل النقل الريفي بسبب وعورتها. ويزداد الوضع سوءاً حين تمطر، أي في الفترة الممتدة بين شهري تشرين الأول وآذار.


ولدت أحلام بن أحمد في قرية بوشة، احدى قرى ريف أزمور، التي تبعد كيلومتراً واحداً عن تخوم البلدة، وعاشت وكبرت فيها. في صغرها، كانت أحلام تصحو عند الخامسة صباحاً لتتمكن من الوصول الى صف الساعة الثامنة في المدرسة. كانت تحمل شقيقها المريض على ظهرها "لأنه يتعب من المشي مسافات طويلة"، وتمشي الكيلومتر الأول من الأرض الزراعية، حافية القدمين "لأنني كنت أخاف ان يتسخ حذائي في الوحل ولم أكن أملك سواه". ثم، وعند وصولها الى طريق عام أزمور، كانت تعود وتنتعله لتمشي به الكيلومترات الثلاثة المتبقية إلى وسط البلدة حيث المدرسة. كانت أحلام وأخوتها الثمانية يتغيّبون عن المدرسة لأيام حين تمطر وتفيض المسالك بالمياه الموحلة بإنتظار ان تجفّ المياه، "وإلا كانت المياه ستغطي ركابنا". غالباً ما كانت أحلام تمرض من البرد أو الحساسية، ولم يكن تعب المسافات الطويلة يساعدها على الدراسة، فقررت ان تترك المدرسة في الخامسة عشرة من عمرها. "لكنني واصلت حمل أخي الى المدرسة كل يوم لأنه كان لا بد لأحدنا ان يكمل الدراسة".

تبلغ أحلام اليوم واحداً وثلاثين عاماً، وهي متزوجة ولها ولدان، رمزي (6 أعوام) وريّان (عامان). والطريق ما زالت على حالها. وما زالت أحلام تقطع المسلك نفسه على قدميها للوصول الى أي خدمة في البلدة. تشتري خبزاً يكفيها شهراً كي لا تكثر من "رحلاتها"، وتسير برمزي على ظهرها الى المدرسة حين تمطر، ثم تسير به مجدداً الى المستشفى بعد ان ينال البرد من عظامه الهشّة. لكن "لا يجوز للتاريخ ان يعيد نفسه"، تغص حين تلفظ الكلمات وعيناها لا تفارقان الصبيين. "أريد ان يكملا تعليمهما لكن رمزي متعب"، متحسس من كثافة الغبار الذي يتسلل الى عينيه من المسلك الرملي. ولأجل الولدين بالدرجة الأولى، تشارك أحلام ومعها جاراتها ونساء أخريات من قرى بوشة، بني مالك وسيدي معاوية، المجاورة لبلدة أزمور، والتي تفتقر جميعها الى طريق معّبد يصلها بالبلدة وببعضها، في برنامج "أمل" للقيادة التغييرية، الذي تنظمه منظمة "أوكسفام" في أربعة بلدان هي: تونس، اليمن، المغرب والأراضي الفلسطينية المحتلة. يهدف "أمل" إلى تعزيز المشاركة الفاعلة للمرأة وتوليها القيادة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك النساء الأكثر فقراً وتهميشاً في آليات صنع القرارات المحلية والوطنية والإقليمية، بما يضمن أن يكون للنساء رأي في صياغة السياسات الاجتماعية والاقتصادية والممارسات على كل المستويات.


يرّكز "أمل" على النساء القاطنات في المناطق الفقيرة والريفية المهمشة، وهو يُنفذ في تونس بالشراكة مع رابطة الناخبات التونسيات، الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات وجمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية، التي حددت مناطق التدخل من خلال العمل الميداني لتوعية النساء بحقوقهن الاقتصادية والاجتماعية وتحديد حاجاتهن وأولوياتهن. يعمل "أمل" في خمس مناطق في تونس: الكاف، قليبية، سوسة، قصرين وبن عروس. حددت النساء مشكلاتهن في كل من المناطق الخمس، وحصلن على تدريب في المناصرة والضغط، واقترحن حلولاً. في قليبية مشكلتهن انهن لا يتمكنّ من الوصول الى الخدمات الأساسية بسبب عدم تعبيد المسالك الفلاحية التي توصل قراهن بالبلدة.

تتركز أغلب الخدمات الصحية والتعليمية والإدارية في بلدة أزمور ومدينة قليبية، بينما تنعدم في بقية القرى الريفية المجاورة، مما يحدّ من إمكانية الحصول عليها في غياب بنى تحتية تمكّن النساء من التنقل في ظروف مناسبة. والحل الذي اقترحنه هو تكوين لجنة مشتركة من النساء والادارات لمتابعة تنفيذ مشروع تعبيد المسالك المتعطلة وسواها من مشاريع تنمية المنطقة. في الكاف والقصرين، مشكلة النساء انهن غير قادرات على الحصول على علاج لصعوبة التواصل مع اللجنة المخولة باسناد البطاقات، فاقترحن ان يتمّ تمثيلهن في جمعية نسوية ضمن اللجنة الرسمية للشؤون الاجتماعية. أما في سوسة وبن عروس فالمشكلة في عدم وصول النساء الى الخدمات الصحيّة، وعدم امكانية حصولهن على بطاقات علاج لعدم وضوح الإجراءات وأدوار الجهات المتدخلة. والحل الذي اقترحته النساء بعد التدريبات كان اصدار منشور توضيحي لمراحل الاسناد وأدوار المتدخلين.

ليست هذه الأولويات سوى انعكاس لواقع النساء الريفيات في تونس، اذ تعاني النساء العاملات في المجال الزراعي من غياب تام للتغطية الاجتماعية بصفة عامة والتغطية الصحية بصفة خاصة، هشاشة التوظيف وخطورة ظروفه، وانعدام الإستقرار المادي وتهرّب الدولة من مسؤولياتها في المراقبة. وقد أثبت ذلك بحث أصدرته "الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات" في تشرين الثاني 2014 على عينة شملت 200 امرأة حول: "ظروف العمل الفلاحي للنساء في الوسط الريفي". اذ تبين أنّ غالبية النساء العاملات في الزراعة لا تتمتعن بآليات التغطية الاجتماعية كما ينص عليها القانون، وأن غالبيتهنّ لا تتمكنّ من العلاج إلا من خلال دفاتر علاج أزواجهن أو أحد أبنائهن (42%)، وان 10% منهن فقط، أي امرأة من مجموع عشر نساء، تتمتعن بالإعانة الحكومية في المجال الصحي. وذلك رغم افادة 60% من النساء المستجوبات بمعاناتهنّ من مشاكل صحّية، تعتبر 93% منهن انها ناتجة عن ظروف العمل.

اليوم، في 17 آذار، تلتقي نساء المناطق الخمس ببعضهن للمرة الاولى، لإطلاق حملتهن للمناصرة، التي تشكل مجموع حملات نساء المناطق الخمس ولتقديمها للمسؤولين في مجلس الشعب التونسي ولصنّاع قرار محليين وللصحافة. واليوم يواجهن ممثليهن في مجلس الشعب بقضاياهن، وهو ما يعتبرنه فرصتهن الذهبية لإنتزاع اعتراف بحقوقهن وتعهدات جديّة وإلتزامات بتحقيق انجازات بوقت محدد، لا مجرد وعود. تدرك النساء ان قضيتهن أبعد من مجرد طريق معّبد، أو بطاقة صحيّة، وهن يدركن انهن اليوم يمتلكن السلطة ليتعاطين بأي قضية تمسهّن في مجتمعاتهن. أدركن ان القضية ليست مجرد جلسة توعية أخرى، انما بداية كسر دورة التهميش وفهم ومواجهة أسبابه البنيوية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها