"تشريح" الحراك في "الأميركية": ردّة فعل على جمهورية الطائف

خلال فترة قصيرة على بدء الحراك، تعددت القراءات بخصوصه. بعضها كان متسرعاً، وحاول إستشراف مستقبل الحراك والرأي العام الذي سينشأ حوله. وبعضها تفانى في نشر تفاؤل يتخطى الحجم الفعلي للحراك الحالي، بإعتباره معبّراً عن كل فئات المجتمع اللبناني. 

والحال أنّ العوامل المحيطة بالحراك الشعبي تتطلب القول إنه لا يزال "يافعاً". وهو في مرحلة يحتاج فيها للنقد بما يساعده على البناء والتقدم والتحول في مراحل لاحقة الى قاعدة يمكن أن يُبنى عليها رأي عام فعلي.


مقاربات ثلاث للحراك
ثلاث مقاربات استعرضها أستاذ العلوم السياسية في "الجامعة الأميركية في بيروت" سامر فرنجية حول الحراك، خلال حلقة النقاش التي نظمها "النادي العلماني" في الجامعة، اليوم الثلاثاء. تستند المقاربة الأولى الى "الرواية التراكمية" التي تعتبر الحراك الحالي مجرد تبلور "لحراك عمره أكثر من سنة نشط خلالها المجتمع المدني، في العمل على تسييس المطالب المجتمعية".

أما المقاربة الثانية فتجد في هذا الحراك عناصر خاصة مختلفة عن كل ما سبقه. وهو بالتالي، وإن كان مرتبطاً بالحراكات السابقة، الا أنه ليس نتيجة أو تبلوراً لها. يشرح فرنجية أن هذه الرواية تجد في الحراك "تغيراً نوعياً دخل على السياسة اللبنانية فأدى الى زعزعة السلطة". هذا التغير لم يكن ليحصل لولا "فضائحية أزمة النفايات"، وكونها أيضاً "قضية ذات طابع جامع لا تدخل ضمنها الخلافات المعتادة".

الروايتان "المتفائلتان"، تقابلهما رواية ثالثة أكثر تشاؤماً تتمحور حول واقع أنّ الحراك جزءٌ من أزمة جمهورية ما بعد الطائف، وهو ليس إلا ردة فعل على "الجمود الذي باتت عليه الشؤون السياسية والإقتصادية والمؤسساتية، بالإضافة الى وضع لبنان كجزء من إقليم مضطرب". وفقاً لهذه الرؤية لا يكون الحراك سوى جزء من الأزمة وعبور في الفراغات الممكنة في ظل إنعدام قدرة الدولة على التحرك وإتخاذ القرارات".


السياسة إنجاز للحراك
والحال إن كل واحدة من الروايات الثلاث تنطبق على الحراك بجزء منها، وهذا ما يزيده تعقيداً، ربما. يوضح أستاذ الإقتصاد في "الأميركية" جاد شعبان التداخل بين هذه الروايات، والأدق انه في شرحه دمج بين الروايتين الأولى والثانية. فالحراك، وفق شعبان، "نقمة على الخدمة العامة التي قُضي عليها في دولة ما بعد الطائف وبدأت مع الترويكا". وهو أيضاً فسحة أخيرة يلجأ اليها اللبنانيون "بعد ان ضاقت أمامهم أبواب الهجرة، خصوصاً إلى دول الخليج".

والحال أن الحراك في حالة من التغير أو التطور المستمر. وتسجل له مجموعة من الإنجازات التي أحرزها. أهمها "تجاوز ثنائية 8 و14 آذار كمشروع سلطة". ويوضح فرنجية أن تخطي الطرفين لم يصل الى مرحلة التطرق لمسائل كالسلاح مثلاً. والواقع أن الحراك "لم يتجاوز بعد الطرفين تجاوزاً كلياً، بل يستمر بتبنيهما في إطار حدود معينة"، هي تلك المتعلقة بمسائل السيادة. بعيداً من هذه المسألة، "نجح الحراك في تكريس أزمة النفايات كنقطة إنطلاق. لكنه لم يقف عندها، بل انتقل منها الى اللامركزية وحقوق البلديات وموضوع الأمن مع تطور القمع، والكهرباء.... وفي الوقت الذي يشكل فيه فتح هذه الملفات نقطة مهمة لإستمرار الحراك، فإن "عدم الإستمرار فيها نقطة ضعف في الحراك".


الرأي العام ثم الإنتخابات
على خط مواز لتطور الحراك، ثمة سؤال عن بعده السياسي. وأبعد من ذلك يُطالب الحراك بأن يصبح مسيساً. يجد شعبان بأن الدعوة إلى التسييس كبيرة جداً، و"الوقت الآن هو للإنتقال إلى مرحلة المشاركة السياسية. كترشيح أشخاص من المؤمنين بالحراك في الإنتخابات النقابية مثلاً". في المقابل يجد فرنجية أن "الحراك في شكله الحالي سياسي". غير أن تسييسه ليس "على الطريقة اللبنانية للسياسة". بالنسبة لفرنجية المطلوب هو "توسيع المخيّلة السياسية أبعد من مسألة تأسيس أحزاب وإنتخابات نيابية"، اذ أن هذا الحراك "أجبر الناس على التعامل مع مطالبهم في إطار مفاهيم سياسية، لا تحصر السياسة في المسائل السيادية".

كما أن "المطالبة بإجراء إنتخابات هو شطح في السياسة الآن"، يقول شعبان. فما هو أهم من السياسة والمطالبة بقوانين إنتخابية في الوقت الحالي هو "التركيز على بناء رأي عام داعم"، وفقه. كما أن "التمسك بالحل المستدام لأزمة النفايات مهم. على أن يرتبط بمواجهة الرأي العام الذي تحاول السلطة خلقه من خلال إتهام الحراك بالتسبب بأزمة صحية في حال بدأت الأمطار قبل جمع النفايات وطمرها". وهنا يقع على عاتق الحراك أن "يؤكد سبب رفضه للخطة المطروحة وتمسكه بالمطالبة بخطة مستدامة، بالإضافة الى التأكيد على كون الطبقة الحاكمة لا تستحق أدنى حدود الثقة، إنطلاقاً من التجربة".