الخميس 2014/12/18

آخر تحديث: 14:17 (بيروت)

حصيلة العام 2014: تآكل المساحات العامة

الخميس 2014/12/18
حصيلة العام 2014: تآكل المساحات العامة
تخيل مآلات المساحات العامة، وتالياً المجال العام، في السنوات اللاحقة لا يبدو مبشراً (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
منذ سنوات يضيق المجال العام في لبنان، بإعتباره فضاءاً للتفاعل والتعبير. وهذا، من بين سياسات أخرى أقل وضوحاً، يأخذ شكل تآكل المساحات العامة، وتحويلها بجهد مواطنين ذوي نفوذ، أو بسبب إهمال رسمي، إلى مساحات لتمتين هيمنة فئوية. على أن هذه الهيمنة تبرر نفسها، كما في تغيير هوية وسط بيروت التاريخية، بمشروع اقتصادي لا يعير المفهوم المديني، في زمنيته وأمكنته وتمثّلاته، قيمة. في السياق عينه، لا يبدو العام 2014 بعيداً من هذا التوجه. وهو، إذا ما قورن مثلاً بسنة سابقة، على ما يفترض بجردة حساب أن تفعل، يكون (هذا التوجه) قد وصل إلى ذروته. على أن قياس هذا الأمر يبقى نسبياً، إذ أن تخيل مآلات المساحات العامة، وتالياً المجال العام، في السنوات اللاحقة لا يبدو هو الآخر مبشراً.


دالية الروشة
لا يبدو الصراع على دالية الروشة صراعاً طبقياً، بين صيادي السمك وأصحاب رؤوس أموال فحسب، بل هو أقرب إلى صراع على جمالية الذاكرة. إذ أنّ هذه المساحة، على رغم ما يُشاع عن تحولها مكاناً لسلوكيات أهالي بيروت الخفية في المرحلة الأخيرة، كانت في عقود سابقة مجال تنفس سكان المدينة، ذوي الأصل المُدني، أو النازحين إليها من أطراف عززت عندهم رغبة التجمع والاحتشاد. وهذا ما دفع الصيادين إلى التحرك مراراً خلال هذا العام، دفاعاً عن مجال عملهم. على أن مستثمري الدالية الجدد قرروا، بما لهم من نفوذ، قطع طريق الوصول إليها، مخالفين في ذلك "حق المرور"، إلى الأملاك العامة، الذي يكفله القانون.


شاطئ الرملة البيضا

في سنوات سابقة لم تكن بارزة مسألة شاطئ الرملة البيضا، الذي يُعد الشاطئ الشعبي شبه الوحيد في مدينة بيروت. لكن بداية صيف هذه السنة برزت ملامح مشروع استثماري يُحضر للشاطئ بعد أن انتقلت ملكيته إلى شركتين عقاريتين تقدمتا بطلب وضع سياج حوله، من دون أن تحصلا على موافقة واضحة من جانب بلدية بيروت. وهذا الانتقال في الملكية، والسعي لانشاء مشاريع استثمار، عُدّا أيضاً مخالفين للقانون الذي "لا يمكن أن يجعل الرمل أملاكاً خاصة". لكن تجربة الرملة البيضا ليست أولى التجارب في لبنان في ما خص الاعتداء على الأملاك البحرية، اذ تبدو هذه المسألة مرتبطة بما أنتجته الحرب الأهلية، "اذ قسمت المساحات العامة بين الجماعات، وبدلاً من إعتماد سياسة إنتقالية، كُرست نتائج الحرب، عبر تحايل من قبل الدولة أو فرض الوقائع كأنها غير قابلة للتغيير".


حرش بيروت

منذ العام 2002 يُمنع اللبنانيون، بقرار من المجلس البلدي لمدينة بيروت، من الدخول إلى الجزء الأكبر من حرش بيروت، الذي يُعد المساحة الخضراء الأكبر في المدينة. وذلك على الرغم من أن مهلة إعادة فتح الحرش للزوار انتهت منذ العام 1992، أي بعد عامين من انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية. وفي السنوات الأخيرة أعلنت البلدية مراراً، بشكل مباشر أو من خلال مفاوضاتها مع المجتمع المدني، عن سعيها لتلزيم الحرش لإحدى المؤسسات من أجل تأهيله لإعادة افتتاحه للعموم. وهذا ما لم تبرز بعدُ معالم بدء العمل به.

منذ منتصف هذا العام، فُتح الحرش مرتين للزوار. أولهما "نزهة في حرش بيروت"، بدعوة من جمعتي "نحن" و"Green Project"، والتي هدفت الى تعريف الناس على الحرش لـ"كسر المنع المفروض عليهم وذلك بدفعهم الى ممارسة حقهم بالاستنفاع من الملك العام"، لكنها كشفت، في السياق عينه، من خلال منع الحرس للصحافيين من الدخول، بداية، عن رؤية السلطة المحلية لهذا الحرش، وهي مبرر اقفالها المتعمد له. أما ثانيهما فالنسخة الرابعة من "مهرجان حرش بيروت" السنوي، الذي نظمته "جمعية السبيل" بالتعاون مع بلدية بيروت ومنطقة "إيل دي فرانس"، في أيلول الماضي. وكانت مناسبة عملية لاختبار هذه المساحة وما يمكن أن تقدمه للسكان من امكانيات ووسائل ترفيه.


الحدائق العامة

الحدائق العامة في بيروت ليست قليلة. لكن تعددها يحيل إلى تعدد مساحاتها واختلاف قيمتها الاستنفاعية والجمالية. في أول شهر حزيران من هذا العام، بدت حديقة الصنائع أجمل، بعد تأهيلها واعادة افتتاحها للعموم، وخاصة بعد ما أشيع، في أشهر سابقة، عن نية لتحويلها إلى موقف للسيارات. لكن الأهمية المركزية لهذه الحديقة في الوعي المديني لا تُخفي أهمية حدائق أخرى، أقل حجماً وأقل جمالية كمثل حديقة المفتي حسن خالد في تلة الخياط. أو حديقة مار نقولا، التي تخضع، في الراهن، الى تأهيل من دون مراعاة مواقف السكان المجاورين لها، ومن دون انتظار تقرير لجنة البيئة، التي شكلتها البلدية، لتقييم السلامة العامة والأثر البيئي للمشروع. اذ أن المشروع الذي "تنوي البلدية تنفيذه سيؤدي إلى تحويل الحديقة إلى ساحة ضمن حيّ كثيف السكان بأمسّ الحاجة إلى مكان للراحة".


بلدية بيروت ووزارة البيئة
والحال أن دور بلدية بيروت يبقى دائماً ملتبساً. فهي مثلاً تتجاهل قضيتي الدالية والرملة البيضا، باعتبارهما مسألتين ليستا من صلاحيات المجلس البلدي، الذي لا يمكنه أن يتدخل، اذ ان "صاحب الملك الخاص يمكنه التصرف بأملاكه حسب القوانين المرعية الاجراء، وتلك المنطقة تندرج تحت بند الاستثمار المنخفض". كما أن الطلب من البلدية استملاك شاطئ الرملة البيضا "أمر غير منطقي، ونعرف جميعاً أن الأسعار مرتفعة جداً هناك. (...) فهل يراد وضع ميزانية البلدية كاملة على استملاكات ليست ضمن امكانياتها؟". على أن هذا لم يمنع، المدير العام لوزارة الأشغال العامة عبد الحفيظ القيسي، في احدى الندوات التي ناقشت مسألة هذا الشاطئ، من القول "لا تقولوا ان لا أموال لديكم، فبلديتكم هي من أغنى البلديات".

وتبدو، في الأساس، وزارة البيئة أكثر المعنيين بهذا المجال. على أن دورها التنفيذي يبقى الأقل قيمة في قياسه، مثلاً، بدور المحافظ أو البلدية. وكان الوزير محمد المشنوق، كما في مسألة دالية الروشة، قد تمنى على وزارة الأشغال والنقل وبلدية بيروت حماية "موقع دالية الروشة من التعديات والمشاريع الخاصة التي تقام عليها وأعمال التشويه عبر فصل الكورنيش البحري"، على رغم أن الصلاحيات التنفيذية الفعلية في يد المحافظ "المخول تنفيذ قرارات كهذه". لكن الوزير، في أمنياته الـ22 للعام المقبل، تمنى أيضاً "التقدم في الخطوات الآيلة إلى حماية قمم الجبال والمناطق الطبيعية وتنظيم استثمار الشواطىء والمساحات الخضراء والأراضي الزراعية في لبنان".



المجتمع المدني
في كل هذه المسائل كان المجتمع المدني حاضراً، وهو يُعد، عملياً، الفاعل الرئيسي في المجال العام في لبنان منذ سنوات، بسبب غياب الأحزاب السياسية أو التكتلات النقابية عن القضايا العامة غير الفئوية أو المصلحية. على أن التحضير لمبادرات قانونية، كما فعلت "الحملة الأهلية للحفاظ على دالية الروشة"، أو التظاهر أمام بلدية بيروت، كما فعلت "جمعية نحن"، يبدوان إلى الآن تجربتين قليلتي الفعالية في مواجهة أصحاب مشاريع تبدو، حتى اللحظة، مجهولة. وهذا لا يُفهم إلا من خلال موضعة هذه الجهود في سياق ميل عند المجتمع المدني اللبناني لخلق مشهديات اعتراضية، مصغرة وآنية، لا تحاول، في مدى أبعد، تحقيق حالة اعتراضية شاملة على سياسات، تبدو دائماً كأنها مخطط لها، للقضاء على المجال العام ومساحاته.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها