الجمعة 2014/11/07

آخر تحديث: 16:08 (بيروت)

لبنانيون مغتربون.. سكان البلدان "المتخلية"

الجمعة 2014/11/07
لبنانيون مغتربون.. سكان البلدان "المتخلية"
متحف مركز دراسات الانتشار اللبناني في جامعة سيدة اللويزة (ريشار سمور)
increase حجم الخط decrease

يُحال الحديث عن المغتربين، في لبنان، إلى مدح في هجرتهم وعائداتها المالية. وهذا ما لا يمكن نفيه طبعاً. ذلك أن الفرد، الذي يترك بلده وناسه، يتجاوز نفسه. وحين يسعى ويشقى، على ما تقول الرواية الرسمية، ويرسل مالاً إلى ذويه يؤسس حضوره بينهم، وحضورهم في اجتماعهم. وهذه المكانة/ الرافعة في التراتب الاجتماعي تبدو واضحة لا حاجة لاثباتها. هكذا، يبدو المغترب، في آخر الأمر، كأنه حصيلته من المال والمكانة، وفرد يجوز معه التلاعب في معنى المعنى لمصطلح الاغتراب ليصير استلاباً. لكن تاريخ اللبنانيين المهاجرين، منذ قرنين تقريباً، لا يبدو واحداً، على رغم جهد الرواة، أجهزة وأفراداً، في تقنين صوره. البلاغة تفيد أحياناً. وبدل أن يكون طرد بلد لـ"أبنائه" مدعاة هجاء، يصير جناحاً، ودوراً وظيفياً، من جناحين (المغترب والمُقيم) يركن إليهما لبنان في عودته/ المعجزة.

لا تتأسس هذه الأفكار على المعرفة بالضرورة. ذلك أن الاستعانة بالأرقام، في احصاء اقتصادي، للتدليل على قيمة هذه الهجرة يبدو علماً محدوداً. والحال أن تأسيس فرع معرفي يُعنى بدراسة الهجرة اللبنانية، إزاء تنميطات وخطابات "الاغتراب اللبناني"، اقتصاداً وصحافة وأدباً، مما لا يبدو مسألة هيّنة. والشعبوية، سابقة على كل تفكير، سلطة لا مفر للمعرفة منها. هكذا، يبدو تأسيس "مركز دراسات الانتشار اللبناني"، كما في العام 2003، في "جامعة سيدة اللويزة" مجازفة – ليست ناجحة بالضرورة- في تناول هذا الموضوع، في جامعة تبدو مرجعيتها مؤسسة أساساً لهذه الصورة.


الحاجة الموضوعية
تبرير انشاء هذا المركز بـ"الهجرة القديمة في لبنان والفاعلة"، عند مديرته الدكتورة غيتا حوراني، يبدو مفهوماً. لكن الاشتغال في الدراسات في لبنان، على ما تقول، ليس ترفاً أو رغبة محضة. "نحن بحاجة لنعرف عن هذه الهجرة، وخاصة لجهة تأثيرها الديمغرافي، واحداثها خللاً في الهرم العمري. كما أنها تساهم في تقليل قدرة لبنان على المنافسة، بسبب ما يخسره من شباب وأدمغة وما يمكن أن ينتجوه من اختراعات". لكن هذا لا يقلل من أهمية معرفة الاحتمالات الايجابية لهذه الهجرة. ذلك أن المهاجرين يؤدون دوراً سياسياً "في ما يشكلونه من مجموعات ضغط في الدول المضيفة. عدا التحويلات المالية الضخمة التي يرسلونها، وما يحتلونه من مراكز علمية"، وفقها.

وهذه الدراسات ليست بلا هدف. "نسعى للتأثير على السياسات الرسمية، واطلاع الناس، وخاصة المسؤولين، على تأثير هذه الهجرة". لكن حوراني تعرف أن السياسات الرسمية حول الاغتراب مفقودة. "نحن نرسل أبحاثنا، ونصائحنا حول الحد من الهجرة أو الاستفادة من عودة المهاجرين مثلاً، لكننا لا نعرف إن كان أحد يطلع عليها". وهذه مشكلة طبعاً، خاصة أن القليل تغير منذ سنوات في ما يخص المغتربين اللبنانيين. أقله انتخابهم في الخارج لم تُقر أبسط آلياته. "يسأل المغتربون ماذا قدم لهم البلد؟". وهذا التساؤل معطوف على الدور المتعاظم للمغتربين اللبنانيين في تنشيط السياحة في لبنان، عوضاً عن السياح غير اللبنانيين، على ما تشير حوراني، ليس بلا معنى. لكن هذه الهجرة تبقى، في آخر الآمر، "أزمة نظام عام. فهي تنتج أزمات داخل العلاقات الأسرية، وأزمات نفسية واجتماعية عند تهميش الجماعات المهاجرة في الدول المضيفة. وتكشف الجوهر التصديري للنظام التعليمي عندنا".


لبنانيو البلد المتخيل
الدراسات الوصفية وحدها لا تكفي. ذلك أن صورة اللبناني في الخارج ليست أرقاماً وعائدات فحسب. فهو يحل، بحمولتيه الاجتماعية والثقافية، في اجتماع آخر. والصورة غير الرسمية ليست بالضرورة مقبولة أو كفاحية. هذا ما لا تنفيه حوراني كلياً. لكنها من معرفتها، على ما تقول، تحصره بفئة صغيرة. "لكن هذه الفئة لا تمثل فكرة الاغتراب اللبناني القائمة على التضامن والعمل واعلاء شأن التعليم والاندماج في المجتمع". الاثراء غير المشروع موجود في كل حال. ويمكن للبنانيين أن يستغلوا علاقات سلطوية. "لكن نظرة المجتمعات المُضيفة لهم ايجابية. إذ أنهم يشكلون قيمة مضافة اقتصادياً. وهم يشتغلون بطموح وابداع وناجحون". وهذه النظرة، على ما تستدرك حوراني أيضاً، ليست واحدة. "في مؤتمر عُقد في لبنان، باحثان من نيجيريا قالا أشياءاً متضاربة عن حضور اللبنانيين عندهم. أولهم مدح دورهم الاقتصادي، فيما ربط الثاني حضورهم بالمشروع الكولونيالي لاستغلال هذه الدول".

لكن الأكيد، وفق حوراني، أن اللبناني يملك "طاقة على التأقلم أكثر من غيره. اذا قارناه بالمهاجر الصيني، فإن اللبناني معتاد على التعدد الموجود أساساً في مجتمعه. وهم أسسوا لتشبيك وعلاقات واسعة". لكنهم في كل حال يختلفون في نظرتهم إلى لبنان. فمثلاً الجيل الخامس، أي الذين هاجر أهلهم منذ أكثر من قرن، "لا تهمهم الدولة وسلطاتها. يهمهم وجود لبنان بثقافته وتراثه وصيغته فحسب". لكن فئات مهاجرة أخرى، كما في أميركا اللاتينية، "وهم أصحاب ميول يسارية، يبدون أكثر تحمساً لقضايا لبنان، إن كان في ما يتعلق بالوصاية السورية أو الاحتلال الاسرائيلي. أو حتى فيما يتعلق بقضايا أكثر داخلية مثل حقوق الانسان أو العنف ضد النساء. يطالبون بقوانين، كأنهم في لبنان، وينشئون صفحات تضامنية على الفايسبوك".

والحال أن أزمة الهوية تبرز عند جيل المهاجرين في الحرب الأهلية. "اذ يخلطون هويتهم اللبنانية بما يمثل لهم لبنان الآن، من حروب وصراعات وغياب الحوار وفساد وواسطة". المشكلتان الأخيرتان تبدوان أكثر خطورة بالنسبة لهذا الجيل. "يحبون لبنان لكنهم يكرهون نظام المعاملات فيه، وانهيار بنيته التحتية. وهذا ما ينتج عندهم بلداً متخيلاً. وعندما يصلون إليه يصطدمون بواقعه".


وظيفة المركز
يؤدي المركز دوراً معرفياً لا يتعلق فحسب بالهجرة اللبنانية، بل أيضاً بالهجرات الأخرى الوافدة إليه. وهذا ما يستلزم جمع أرشيف خبري وبحثي ضخم. بالإضافة إلى مراجع تتعلق بالأوضاع، الاجتماعية والاقتصادية، للدول التي شهدت هجرة لبنانية، وكتباً عن القرى والعائلات اللبنانية، و"أكبر مجموعة أطروحات دكتوراه وماستر عن الهجرة اللبنانية بكل اللغات"، وفق حوراني. وهذه الوثائق، الورقية أو الرقمية، متاحة للجميع في المركز بالاضافة إلى معرض دائم للاغتراب اللبناني، يتضمن أرشيفاً برسائل وصور ومجلات وأدوات ثقافية أخرى. كما يعتمد المركز على البرامج البحثية التشاركية، حيث يستقبل باحثين لبنانيين وأجانب ويؤمن لهم مصادر معلومات وعلاقات تسهل إنجازهم أبحاثاً متعلقة بالهجرة اللبنانية. وفيما تشتغل حوراني، في الراهن، على بحث حول دور الأحزاب اللبنانية في الاغتراب، يشتغل زملاء لها على موضوعي انتخاب المغتربين وهجرة الكفاءات النسائية اللبنانية إلى فرنسا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها