الجمعة 2014/11/07

آخر تحديث: 16:09 (بيروت)

شهادات في العلاقات الدائرة "هناك"

شهادات في العلاقات الدائرة "هناك"
أرشيف الاغتراب اللبناني من مجموعة الدكتور جهاد بنوت
increase حجم الخط decrease

هذه الشهادات، المتعددة في أسباب هجرتها، لا تقيس غير المرارة المستمرة في هجرة اللبنانيين إلى الخارج. وهي تحاول، توثيقياً وسردياً، أن تنزع الطابع "السحري" و"التمجيدي" للهجرة اللبنانية، ولوجود اللبنانيين في الخارج. كأنها خطاب معكوس للخطاب الرسمي، وأسطرته لغربة أهله عن أنفسهم وأرضهم. وهي أقرب إلى توصيف أولي لبعض من العلاقات الدائرة هناك، وفي غير هذه البلاد.



أحمد، 52 سنة، كونغو

غادرت لبنان في العام 1986 وعدت اليه في العام الحالي. كانت أفريقيا آنذاك الخيار الوحيد أمامي، اذ لم يكن بين يدي مهنة أو اختصاصاً معيناً. في أول وصولي عملت كأمين صندوق في شركة، لأتنقل بعدها بين شركات تشتغل في معظمها في مجال مستحضرات التجميل، الذي يعتبر مجالاً مزدهراً لكثرة طلب السكان المحليين على هذه المنتجات، لاستعمالها في تفتيح البشرة وتنعيم الشعر. فكان الكثير من اللبنانيين، مِمَن لا يتاجرون في الألماس، يستغلون اهتمام الفقراء، خصوصاً، باستهلاكها.

الجالية اللبنانية في الكونغو، كما في بقية البلدان الأفريقية، ليست قليلة. ذلك أن الحياة هناك غير متعبة، فاليد العاملة كثيرة ورخيصة، مما يُمّكن اللبناني، والأبيض عموماً، من أن يكون "السيد" فلا يُنادى الا بـ"Patron". وبدا واضحاً أن الفوقية والسلطوية هاتين تنتجان هوة بين اللبناني المستفيد من خيرات تلك البلاد والأفريقي العامل لديه. وهذا ما ينقلب حقداً طبقياً يتجلى عند تعرض السكان الأصليين لللبنانيين، واستخدامهم العنف ضدهم كلما سنحت لهم الفرصة لذلك. لكن المفارقة أن اللبناني يتعجب، هكذا، حين يقابل الأفريقي العنف الذي يتعرض له بعنف مضاد. فالعنف، بما هو في الحالة هذه إستغلال يقارب الإستعباد، ليس واضحاً عنده.

على صعيد آخر، تحاول كل شركة لبنانية احتكار السوق، فتحتدم الصراعات بين اللبنانيين أنفسهم. ويبدو نجاح اللبنانيين في عملهم في أفريقيا مرتبطا أساساً بخبرتهم في شؤون فساد الدولة، فيعرفون كيفية استخدامه لمصلحتهم، فيُنشئون علاقات مع مسؤولين في السلطات الرسمية، وتحديداً موظفي الجمارك، كما يقدمون الرشى أحياناً من أجل تسهيل أعمالهم وتمرير أمور غير شرعية.

عشت هذه السنوات بعيداً عن أسرتي، وكانت في البدء أدوات التواصل بيننا هي الرسائل المكتوبة و"الكاسيتات" المسجلة، التي كانت الوسيلة الأفضل لسماع صوت أولادي اذ لم يكن الهاتف متوفراً في حينها كما الآن. ما زلت أحتفظ بأشرطة يتحدث فيها أولادي عن دروسهم ويشرحونها لي. وقد أكسبتني الغربة مهارات في صياغة الرسائل، فكان يقصدني كل أصدقائي طالبين مني أن أكتب لهم رسائل لحبيباتهم أو زوجاتهم في لبنان. وهذا على خفته، مجاوراً أسى العلاقات الدائرة في هذا "العالم"، بدا لي عزاءاً مقبولاً.


سامر، 22 سنة، السعودية
فكرت جدياً، وأنا أنتظر في مطار بيروت، في عدم الصعود الى الطائرة. فإن كان عليّ أن أغترب، فكنت أفضل، على الأقل، أن أسافر الى مكان أتمنى أن أكون فيه، لا الى السعودية. وكنت قبل شهور قليلة قد أنهيت دراسة الهندسة في احدى الجامعات اللبنانية، فأتيت الى السعودية حيث فرصة العمل الوحيدة التي سنحت لي، ولكوني أستطيع هنا ادخار المال. لم أتأقلم مع ثقافة البلد بعد شهرٍ من وجودي هنا، ولا زلت في كل لحظة أقول لنفسي أن جمع المال لا يجب أن يكون على حساب صحتي، وبالأخص النفسية.

لست أبالغ في نفوري من أجواء هذا البلد، فالدعابة التي توجه الى كل لبناني جديد يدخله هي "أهلاً بك في الجحيم". تقال على سبيل المزاح لكنها تحمل في مرارتها الكثير من الجدية. وبإستثناء من ولد في البلد واعتاد بالتالي على أجوائه، لم أصادف أحداً قال لي أنه أحبه. وبالرغم من ذلك كثيرون هم اللبنانيون الذين يأتون الى هنا، وطويلة هي السنوات التي يقضونها هنا أيضا. ذلك أنهم هنا لا يقلقون من إنقطاع المياه والكهرباء وتلك الأمور البسيطة التي تثقل كاهل الناس في لبنان.

لكن في نواحٍ أخرى، لم يكن هذا البلد مماثلا تماماً للفكرة التي كنت قد شكلتها مسبقاً عنه. الحديث عن الحرية وفي السياسة ممنوع طبعاً، والخوف من الدولة موجود. لكن كتب الفلسفة موجودة في المكتبات، ولا تشديد على الصلاة. وهذه أمور جاءت على خلاف ما كنت أتوقعه.


عبير، 23 سنة، بلجيكا
تزوجت وهاجرت الى بلجيكا حيث يعمل زوجي، وهذه سنتي الثانية في أوروبا. حصلت على تأشيرة على أسبانيا ودخلت بلجيكا عن طريقها. لا زالت أوراقي غير قانونية وغير مكتملة. لذلك أسعى حالياً الى جعل اقامتي شرعية، كي أتحول من ربة منزل الى امرأة عاملة. اذ أعتزم افتتاح مركز تجميل والعمل في هذا المجال. وفي الوقت الحالي، أنا زوجة وأم. ولد طفلي هنا، وهذا السبب الأساسي لمجيئي الى هذه البلاد في الأصل. فلم أرد لأولادي أن يعيشوا في لبنان، حيث أن الشعور بعدم الإستقرار والخوف من الغد سوف يمنعهم من التفكير في المستقبل والتخطيط له، ويحرمهم من الحلم والطموح. أعرف أن ابني هنا سيتلقى التعليم الأفضل، الذي لن أستطيع تحمل أعبائه في لبنان. والكليشيهات التي سمعتها عن أوروبا وجدتها بالفعل. لكنني هنا فقط أحسست بإحترام الدولة للمواطن وللأجنبي أيضاً. كما أن الأطفال يلقون اهتماماً كبيراً ويأخذون حيزاً واسعاً من قوانين الدولة، وهذا ما أريده لإبني.

وأول ما لفتني أثناء وجودي هنا هو جمال البيوت على بساطتها. لا مبالغة في التصاميم ولا حتى تباه في اظهار الثراء. لكن الجزء الأصعب هو بعدي عن أهلي. وكانت التجربة الأكثر صعوبة بالنسبة لي هي ولادة ابني من دون وجود أحد من أهلي الى جانبي، خصوصا أمي. انه الحفيد الأول لعائلتي ولم يتسن لهم التعرف اليه بعد، سوى عبر الصور و"سكايب".

اغترابي ليس مؤقتاً. فأنا لا أعتزم العودة الى لبنان. لكن المهمة الأصعب والأكثر حساسية التي ينبغي أن أقوم بها هي التوفيق بين المبادئ الغربية التي سيستهلكها ابني والقيم الشرقية التي سأعمل على نقلها اليه، وان كنا بعيدين كثيرا من وطننا.


عبير ح.، 20 سنة، ايطاليا
في لبنان لم يخطر في بالي الاستفسار عن الجامعات المحلية، ولا عن السكن قربها أو الوصول اليها. بدا لي منذ سنوات أن سفري للدراسة في الخارج محسوم. وهذا ما أعده استكمالاً لتجربة والدَي من قبل، وأخي من بعدهما. كأنني، أفكر، أمشي في طريقهم تماماً. عدا أن الوضع الأمني، المتشنج منذ سنوات في لبنان، لا يحفز أحداً على البقاء.

وفي حينها كانت فرص السفر إلى ايطاليا قد زادت، فراح طلاب كثر يتعلمون اللغة الايطالية من أجل السفر. وكان أخي، الذي يكبرني بسنوات أربع، قد انتسب إلى المعهد الثقافي الايطالي وزُود بموقع الكتروني يحتوي على معلومات حول استقبال الجامعات الايطالية للطلاب الأجانب. وسافر، بعدها، ليدرس الصيدلة. تأخرت عنه سنة اضطرارية درست فيها اللغة، لأنتسب إلى كلية العلوم والتكنولوجيا في كاميرينو (Camerino)، وهي أقرب إلى ضيعة منها إلى مدينة، وقليلة السكان والنشطات.

لا يمكنني أن أتحدث عن تغير كبير. ذلك أن كاميرينو كأنها مكان مرفق بالجامعة وحركة طلابها. وفي الجامعة، الآن، 10 طلاب لبنانيين، حظيوا في الغالب بمنح دراسية ساعدتهم في تغطية القسط، السكن والأكل. وفي كاميرينو نفسها، على ما أتخيل، يبدو 10 أفراد عدداً كبيراً، لكنه في آخر الأمر قليل. مع ذلك يبدو واضحا لي الانقسام الطائفي/ الجغرافي/ السياسي لهؤلاء الطلاب. واذا كُنت، وأخي معي، نحيد أنفسنا عن هذا الانقسام بتعاط جيد ورحب مع الجماعتين (الجنوبية/الشيعية والشمالية/السنية) فإنهما، في علاقاتهما ببعضهما، يبدوان متنافرين دائماً، وأحيانا لا تتعدى هذه العلاقة السلام في أقصى حدودها. وهذا ما لا يبدو بعيداً عن الجالية العربية ككل، وهي لا تتعدى في مجموع الطلاب إضافة إلى عائلتين مقيمتين هنا، الأربعين فرداً. فهم لا يجتمعون إلا في مناسبات قليلة جداً، كبعض الأعياد الدينية وحفلات التخرج.

وتبدو حمولة المغترب التنميطية قادرة على أقلمته مع هذا الفرز. فهم، لبنانيين أو عرباً، يحفظون مقولات من مثل "ابعد عن العرب" و"شو بدك باللبنانية وبلالك وجع الراس منهن"، و"صاحب الطليان وخليك متلهن ومعهن اريحلك"، كأنها دليل استخدام لحياتهم هنا. ولا يبدو هذا الفرز بعيداً أيضاً عن الايطاليين أنفسهم، لجهة تعاملهم مع الغرباء، وخاصة في ما يتعلق بأصحاب البشرة السمراء، من الأفارقة والعرب الأفارقة. وهذا ما يمكن ملاحظته في الحياة الجامعية غير الصفية.



مصطفى، 22 سنة، أميركا
جئت إلى كاليفورنيا في أميركا لأكمل دراستي وأحصل على "الباسبور". وكنت، في لبنان، أرى فيها مجتمعاً مغايراً لما أعيش فيه، وفي تصوري أن أحداً هنا لا يتدخل في حياة أحد. وهذا ما تأكدت منه في درجة أزود وأفضل مما تخيلته. والتهذيب، اذا أردت أن أصف سلوكهم، هو ما يفرقهم عنا وعن مجتمعنا. لكن جاليتنا، أو كل الشرق أوسطيين، جمعاً واحداً، لا يُعتد بهم هنا.

وأنا أعرف أن الأميركيين، وبسبب عقليتنا، لا يتقبلون حضورنا دائماً. إذ أننا، هكذا، نريد دائماً أن نسخر من هذا أو ذاك، أو من موضوع معين، فحتى لو بدونا "مهضومين"، على مثال "الهضامة" اللبنانية، كما يمكن أن تُعرَّف، فإنهم يعتبرونها قلة أدب. لكننا أيضاً نجرب دائماً أن نكون أفضل منهم، وأن "نشوف حالنا عليهم، وأن نستلم كل شيء". يعني، في تعاملي مع أبناء بلدي لم يتغير عليّ شيئ تقريباً. هم أنفسهم في لبنان وهنا. العقلية نفسها جاءت معهم وبقيت. وهذا، على ما أشعر، مصدر إشمئزاز الأميركيين منا. على أن هذا السلوك لا يمكن تعميمه. فاللبنانيون الذي ولدوا هنا، وتعلموا في مدارس أميركية وتأسسوا في ثقافتهم، مثلاً، لا يشبهون من جاء من اللبنانيين والعرب إلى أميركا حديثاً. تأمركوا، اذا جاز القول، عقلاً وثقافة، وهذا ما يمكن أن يُلحظ بسهولة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها