الاستبداد في خطاب الهوية العربية

وجيه قانصو

الثلاثاء 2019/10/15
يصعب ضبط عناصر موضوع الهوية العربية، بمحدداتها الثقافية والتمثلية، أو تحديد مكوناتها وتصور بنية تركيبها، بعد حدوث سيولة في حقائقها واضطراب في مظاهرها، وطروء متغيرات بعضها داخلي والبعض الآخر خارجي أو عولمي خلخل ما كان سائدا ومستقراً ومألوفاً بل ما كان مسلماً به حولها، ما ولد ارتباكاً نظرياً في تعريفها، وغيب إمكانية بلورة أدوات ونماذج تملك قدرة تفسيرها وفهم محركاتها الداخلية وتوقع مآلاتها ووجهاتها.

نتحدث عن شيء قابع وراء ما نعاين، نستعين به لنفسر ما يجري والتعرف إلى محركات الأحداث، قد يكون حقيقياً، لكننا لا نكشف عنه إلا بالتصور الذهني وربما الافتراض الرياضي. ولما كان كذلك، فإن غياب المعطيات ومتغيراته تجعله لزجاً ومتحركاً وسيالاً، كما إن دخول العوامل الذاتية في تركيبه، يوقعنا كثيراً في جوهرانية خادعة،  ويخلق فينا آمالاً مستقبلية تعوض علينا قساوة وغلظة وتهافت الواقع. ما يجعل المفهوم يتقلب أو يتردد بين أن يكون مفهوما أيديولوجيا لتسويغ الواقع، أو مفهوماً علمياً أو نموذجاً منهجياً لفهم الواقع وتفسيره، أو يوطوبيا للتطلع إلى واقع مفارق. وفي الحالات الثلاث يصعب رسم الفواصل بينها، أي بين كونه أيديولوجياً أو علمياً أو طوباوياً، بحكم استناد كل منهما إلى مفهوم التطابق بين المفهوم وحقيقة الأمور.   

ورغم الفارق الكبير بين المفاهيم الثلاثة، فقد ظل هذا المفهوم في تداول الفكر العربي مختلطاً ومتمازجاً.  بحكم أن تأسيسات الهوية العربية المعاصرة ظلت تستقي مرجعياتها النظرية في مجال الهوية من الأصول النظرية للهوية الألمانية التي ظلت تحلق في الميتاإنساني والميتا سياسي، سواء أكان في اللغة أو الروح أو الإرث التارخي القديم الذي أخذنا نستحضره بانتقائية فاضحة. وأيضاً بحكم هيمنة المنهجية الماركسية التي اختلط فيها تفسير الواقع مع بواعث تغييره. فتمازجت الأيديولوجيا مع اليوطوبيا مع العلموية، حيث كان مفهوم تفسير الواقع والركون إلى مكوناته الفعلية والواقعية، هو عينه مفهوم تغييره وتحويله.  فالماركسية ترى أن تناقضات الواقع الذاتية هي التي تدفعه إلى واقع آخر، وما على قوى التغيير (النخبة) سوى تكثيف هذه التناقضات وتسريع لحظة الإنفجار الآتية. فالنخب لا تصنع واقعاً ولا تنتجه، بقدر ما تدفعه إلى أن يتحول من داخله وبذاته وعبر عوامله ومكوناته الذاتية.

مهما يكن من أمر، فإن واقع الهوية المعاصرة يشي بواقع متزلزل ومليء بمتغيرات في مكوناته، وتحولات في عناصره وتصدعات في بناه، بحيث لم يعد بالإمكان الركون إلى استمراريته وبقائه على وضعيته السابقة التي اتخذت وضعية مستقرة عبر نماذج دول الاستقلال.  يضاف إلى ذلك كثافة المتغيرات التي جاءت من الخارج ولم نرصد أثرها وتموضعها في واقعنا رصدا كافياً، بل آثرنا الإشارة إليها من بعيد أو استخيفنا في حجم أثرها الداخلي، سواء أكان من الجهات الرسمية، أو الجهات الباحثة والمفكرة.   

سأعمد في هذه المقالة إلى قراءة ممارسات العرب في بناء واقتراح الهوية، وما يليها من تأسيسات ثقافية وتأصيلات فكرية.  هي هوية شكلت في زماننا الراهن منطلقاً وجودياً وأفقاً مستقبلياً وأصلاً تضامنياً وأرضية انتظام عام.  أي لم تكن منظوراً فردياً في نظرة العربي إلى نفسه، وإنما هي منظور جمعي عمم نفسه وشكل إطاراً ومرجعية في نظرة الفرد إلى نفسه، ونظرة الجماعة إلى نفسها وإلى غيرها، وإلى قواعد انتظامها وتضامناتها. فالهوية المعاصرة لم تعد مثلما كانت في السابق هوية معتقد ومنظور خلاصي وضابط قيمي للسلوك الفردي، بل هي منظور انتظام سياسي وتعاضد اجتماعي، يجعلها اساساً ومرجعية لكل حراك عام ونظم علاقات المجال العام. هذا يجعلنا نبحث في الهوية بصفتها الناظم والضابط للمجال العام، الذي على اساسه تستمد بنى المشروعية السياسية، ويتشكل التضامن الاجتماعي، وتتولد الديناميات المجتمعية.

فالهوية والثقافة ليستا مجرد أنماط سلوك وعادات، أو نظرة كونية متعالية إلى الذات بل باتت في زماننا إطاراً للإنتظام العام، ومصدر مشروعية الأمر والطاعة، وأساس الانصياع. فالهوية ليست شيئا معزولا عما نمارسه في الحياة العامة، بل هي الفضاء الذي يشرطه ويكونه ويستند إليه في مشروعيته. 

ويمكن القول ان خطاب الهوية التي عبرت عنها النصوص الفكرية والسياسية المعاصرة في المجال العربي، قد استند إلى مرجعيات ثلاث: 

  1. هوية تتحدد عبر الآخر الخارجي: الغربي تحديداً، حيث شكلت الحداثة التحدي الأكبر للإنسان العربي منذ بداية القرن التاسع عشر.   اهتم العربي بالتحديث، لكنه تداوله بنحو منفصل عن أصوله الفلسفية، ومنزاح عن نقطة ارتكاز التحديث التي هي مركزية الإنسان الفرد في حرية معتقده ومبادرته ومقتضيات أمنه. فانحصر التحديث بتكثيف هيمنة الدولة وتعزيز قدرات بطشها العسكري والأمني، ما جعلها تحديثاً تقنياً أداتياً خالصاً يمعن في محاصرة الفرد والتحكم بمصائره. أي تحديث يولد نتائج مضادة لأصل الحداثة نفسها.

ورغم ذلك، فقد بدأت الجهود الفكرية عبر الإصلاحيين ومن منطلق الندية لاستيعاب مكتسبات الحداثة، ثم تطور الموقف عبر الليبراليين العرب إلى الدعوة إلى الاتباع الكامل، ثم انتهى عبر الإسلام السياسي إلى رفض الحداثة بالكامل ومحاصرة مختلف صور تمثلاتها.

في مجال الانتظام العام، بقيت الدولة، رغم حداثة بنيتها، بعيدة عن المرتكزات العقلانية في نشاط الدولة ومشروعية السلطة، وظلت المجتمعات، رغم إقبالها النهم على منتجات الحداثة، محكومة لأطر علاقات وتفاعلات وبنى إنتاج تقليدية.  فنشأ لدينا تمفصل بين مكونات تتعايش رغم تناقضها، حداثة تعبوية شعاراتية في مجال الحرية والتعبير الحر والتمثيل السياسي، وواقع محكوم لمعايير ومرجعيات سلوك وسلطة أمر تسوغ الاستبداد وتتعايش مع القهر وتحيل المجال العام شأناً غيبياً ميتاً-إرادياً.

  1. التراث الذي انكب عليه الخطاب العربي الحديث يستقي منه خصوصيته وتميزه. فغلب على استحضاره لغة التعبئة الوجدانية والمحفز الباطني. ما جعل العربي يقارب مشكلاته المعاصرة بأدوات لا تناسب طبيعة تحدياته وضرورات وجوده الراهن.   كانت العودة إلى التراث في سياق رسم الفواصل مع الآخر، وإظهار الخصوصية المتميزة، فوقع العقل العربي أسير ثنائيات لا فكاك منها، وحائرا بين ديناميتين متناقضتين هما دينامية التحديث ودينامية التقليد. فتحول مسعى الندية أو الخصوصية، إلى واقع مرتبك ومتعثر بحكم جمعه أو توليفه لنقائض لا تقبل الاشتراك أو التركيب: تناقض التقليد والتحديث،  تناقض الهوية الثابتة والحرية، الاصالة والمعاصرة...

  2.  الإسلام بصفته الجوهر الأساسي المحدد للهوية القادرة على الصمود والتصدي والمواجهة. قرأ الإسلام بلغة السلب لا الإيجاب، واستدعي بصفته الدرع الواقي من السقوط، والمحدد للهوية والوجود.  فجاء الإسلام الحديث والمعاصر بصيغ جوهرانية ثابتة ومتعالية، لا بصفته فضاء اجتهاد وتفكير وتأويل ناشط. ولما كان المقصد منه حماية الهوية من الآخر الغربي الزاحف، فقد تم إنتاج مقولاته وقيمه بطريقة تنافي الحداثة وتناقضها وتقديمها بديلا شاملا عنها في كل مناحي الحياة.   ما نقل السلوك الديني من مصاف السلوك الخلقي والعبادي، إلى مصاف السلوك العقائدي الذي يسبع على كل شيء صبغة عقائدية خالصة. وبتنا أمام مقولة إما الإسلام كله أو الكفر كله. 

تم تركيب الهوية العربية بغياب كامل لاي نشاط فلسفي ناقد، ومن منطلقات محكومة بالخوف والقلق، وعدم استعداد أو قابلية لإحداث انتقال فعلي لا يطال السطوح فحسب، بل يمس الطبقات السفلى من محددات الوعي وبواعث السلوك. فكانت الهوية بمثابة شيء جوهراني ثابت لا نملك إزاءه إلا القبول والانسلاك في إملاءاته، فكانت هوية اللا-خيار واللا-إرادة، هوية الغامض السحري والخلاب الذي ننسحر به لا لنصنع واقعاً فاعلاً بل لنعزز عزلتنا عن الواقع ونعوض عبر هذه الهوية جروحنا النرجسية.
 

غاص العقل في الميتافيزيقيا أو الترنسندنتال، أي المتعالي عن الواقع أو التجربة أو الذي لا يستقي أصوله وصلاحيته من المعطى العيني، بل المعطى الغائب المجهول  استحالت عناصر الهوية هوية واحدة ميتاتاريخية ثابتة جوهرانية لا يستقيم استمرارها بعقلانية ناقدة أو إرادات متذرية، بل بكتلة واحدة تعيش هوية مركزية من دون حاجة إلى تعقلها وفتح إقفالها وكشف أسرارها.  هوية واحدة تغفل الهويات الجزئية بل تهمشها وترغمها على الانسلاك في هوية مصطنعة.  

هوية الغيب، عممت بدورها ثقافة الإنصياع والطاعة وتقديمهما على الاختيار والحرية. فالهوية شيء خارج عن الإختيار، ولما كان كذلك، فإن تحقيقها أو حفظها سيكون ميتافردي، لا يتحقق بوسائل عقلية ومبادرات إبداعية، بل عبر قيادة كاريزمية تختزل الفرد والمجتمع معاً في شخص استثنائي فوق-إنساني. ما اختزل إرادة الدولة من إرادة كلية منبثقة من إرادات أفراد المجتمع وجماعاته الخاصة، إلى إرادة جزئية واحدة تتحكم بإرادة باقي أفراد المجتمع.  

لذلك، وبدلا من أن تستمد الدولة العربية المعاصرة مشروعيتها من إرادة الفرد والمجتمع، باتت مستندة إلى  سلطة غيب أو مرجعيات مفارقة ومتعالية. ما جعل الإتصال بين الدولة والمجتمع في الحدود الدنيا، ورسخ الفصل البنيوي بينهما، وحول الدولة من كائن معنوي يقوم على اعتبار عقلاني-قانوني إلى دولة فقدت صفة العموم، وباتت مشخصنة تقترن بإسم فرد أو عائلة دينية، ركيزتها الغلبة وأساس بقاءها الإكراه، ودليل الصلة معها زبائنية تقوم على ولاء شخصي بين مواطن منسحق وفرد حاكم يسخر مقدرات الدولة لصالحه.  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024