روسيا تطوّع القفقاز

بسام مقداد

الأربعاء 2019/02/06

في مشهد شبه هوليودي شهدته قاعة اجتماعات مجلس الإتحاد الروسي، قام الأمنيون الروس في 30 من الشهر المنصرم باقتحام القاعة واعتقال مندوب جمهورية كاراتشايف تشركسيا في المجلس رؤوف أراشوكوف. ومما زاد في هوليودية المشهد وأهميته الكبيرة بالنسبة للأمنيين، هو أن عملية الإعتقال جرت بإشراف الشخصيتين الأمنيتين الأكبر في روسيا (بعد مدير هيئة الأمن الفدرالي FSB) ، هما المدعي العام الفدرالي يوري تشايكا ورئيس هيئة التحقيق الفدرالية ألكسندر باستريغين .

أما لائحة التهم ، التي وجهها المدعي العام لهذا البرلماني الشركسي ، فقد تضمنت ، حسب صحيفة الكرملين "vz" ، تهمة تنظيم عمليتي اغتيال شخصيتين سياسيتين محليتين في العام 2010 ، وعضوية تنظيم غير قانوني، والدعوة إلى عصيان السلطة في منطقته. وتقول هذه التهم وتوقيت توجيهها الكثير عن مؤسسات السلطة الروسية الفيدرالية وفي الأقاليم، ومن يصل إلى مواقع السلطة هذه وكيف يصل . فالبرلماني الفيدرالي المتهم هذا، لا يتعدى عمره 32 عاماً ، وسبق له أن شغل في سن 22 من العمر منصب وزير العمل والتنمية الإجتماعية في جمهوريته، وفي سن 24 أصبح  نائبا في البرلمان المحلي، وتم تعيينه نائب مدير شركة توزيع الغاز التابعة للعملاق "غازبروم" في القفقاز، وأصبح في سن 25 من العمر النائب الأول لرئيس حكومة جمهورية كاراتشايف تشركسيا ، ورئيس هيئة طرق السيارات في الجمهورية.

هذا الصعود الصاروخي للبرلماني الفدرالي الشاب، يعود الفضل فيه لوالده راؤول ، الذي اعتقل يوم اعتقال إبنه بالذات. وقد تم القبض على الأب في سانت بترسبورغ ، في مقر شركة توزيع الغاز التابعة للعملاق "غازبروم"، التي يشغل فيها منصب مستشار مديرها العام المسؤول عن توزيع الغاز في منطقة القفاز، بعد أن كان مديرها العام حتى العام 2011 ، حسب صحيفة "sp" . وتقول الصحيفة ، أن راؤول متهم باستغلال منصبه وعلاقاته لتوظيف أقاربه وأصدقائه في مختلف المواقع والمناصب في منطقة القفاز ، وبسرقة مبلغ يفوق 31 مليار روبل، عن طريق إنشاء شبكة من محاسيبه لتوزيع الغاز المسروق من الشركة وبيعه للمواطنين والشركات في القفقاز. وقد دفع هذا الأمر بالصحيفة إلى التساؤل عما إن كانت "غازبروم" هي التي تقف وراء إثارة قضية هذه الأسرة الشركسية، وتوسع دائرة تساؤلها باتجاه الكرملين لتقول، بأن "المكتب السياسي" للكرملين يدرك بأن "قاعدة العلف" لا تكفي للجميع ، لذلك ينبغي التضحية بأحد ما .

لكن موقع "yra.ru" الروسي يقول ، بأن زعيم الشيشان رمضان قاديروف قد يكون هو من يقف وراء اعتقال البرلماني الشركسي ووالده ، وذلك على خلفية رفضه دفع مبلغ 9 مليارات روبل ، الذي تطالبه به شركة "غازبروم" كديون مستحقة على مواطني الشيشان .

أما صحيفة الكرملين المذكورة ، فقد كانت منذ اليوم الأول واضحة وصريحة بتحديد الجهة ، التي استهدفت الأسرة الشركسية ، وتساءلت "لماذا يدمر الأمنيون آل أراشوكوف". وقدمت الصحيفة العملية بأنها ضربة لمعقل آخر من معاقل "النظام الإثني العشائري" في شمال القفقاز ، إذ أن أسرة أراشوكوف كانت ، ولسنوات عديدة، تلعب ورقة العلاقات القومية في هذه الجمهورية الصغيرة، وتخفي شبكة مصالح هائلة وراء اهتمامها الإستعراضي بابناء عشيرتها من الشركس .

وكان لصحيفة "novay" الليبرالية المعارضة مقاربة أخرى لهذه القضية، إذ تحدثت عن علاقة أسرة أراشوكوف المسلمة بالكنيسة الأرثوذوكسية الروسية، وعن التبرعات لمؤسسات هذه الكنيسة، شرط الإبقاء طي الكتمان حجم هذه التبرعات والمؤسسة الكنسية المتلقية. وتحدثت الصحيفة عن صور في شبكة الإنترنت تجمع بين راؤول أراشوكوف وبطريرك الكنيسة الروسية كيريل، وكذلك مع متروبوليت مدينة ستافروبول في شمال القفقاز. إلا أن هذه الصور اختفت عن الشبكة يوم اعتقال الأب والإبن الشركسيين، واختفى معها عن مواقع الكنائس المعنية أي ذكر للعلاقة مع هذه الأسرة. وتحدثت الصحيفة عن أوسمة قديسين منحها البطريرك كيريل للوالد راؤول بحضور شخصيات رسمية، وقالت بأنه من الصعب أن نجد في روسيا مسؤولاً فاسداً، أو رجل أعمال على علاقة بعالم الجريمة، لم تمنحه الكنيسة الروسية وسامها. وقد تكرست بوضوح في الوعي الجماهيري، حسب الصحيفة، علاقة ترابط في ثلاثية  "السلطة، عالم الجريمة، الكنيسة الروسية" .

وفي ندوة حول الحدث بعنوان" الأمنيون يشركون ستالين" نظمتها إذاعة "الحرة" الناطقة بالروسية ، يقول أحد المشاركين فيها، وهو مستشار ما يسميه "الكونغرس الشركسي"، بأن النظام السياسي القائم في روسيا الآن، يمكن أن نسميه "الإقطاعية الجديدة". وبعد أن يدخل الرجل في تفاصيل ما يجري في تشركسيا وسواها من مناطق شمال القفقاز من صراعات بين العشائر والعائلات حول السلطة وتقاسمها ، يقول بأن هذه هي الإقطاعية بعينها، وأن روسيا قد عادت إلى الوراء، إلى ما قبل بطرس الأكبر، وإذا كنا نريد أن نفهم ما يجري فيها الآن، علينا أن نعيد قراءة تاريخ الإمبراطورية العثمانية .

ومن جانبه ، علق مركز كارنيغي في موسكو على الحدث بمقالة تحت عنوان "نقطة ضعف جديدة . كيف سيغير الإعتقال في مجلس الإتحاد السلطة الروسية". يقول المركز، أن الدولة ذات الهيبة، المتماسكة والراسخة، التي بناها بوتين منذ العام 2000، تأكل نفسها من الداخل الآن . فهي تسجن حكام مناطق ووزراء وأعضاء مجلس اتحاد ، بشكل إستعراضي وبلا رحمة، وكأن لا وجود لأي نظام بوتيني ورجالات بوتينيين . لقد أفرط الرئيس في الإنخراط بالجيوبوليتيك ، وشرع الأبواب لنزع البوتينية عن أعمدة السلطة، حين أخذ كل ما هو دون رأس الدولة يكف أن يكون محمياً بشرعيته.

وبعد أن يؤكد المركز، بأن اعتقال رؤوف أراشوكوف في قاعة مجلس الإتحاد جاء مفاجئاً للرئيس ولكل الطبقة السياسية الروسية، ويذكر بالإعتقال المفاجئ أيضا لوزير التنمية الإقتصادية في العام 2016، يقول بأن الأمنيين كانوا ينشطون في السابق ضد سياسيين إقليميين، أما الآن فقد أخذوا يتعرضون لسياسيين فيدراليين، وانخفضت بشدة لديهم قيمة الحصانة النيابية. وما يميز حادثة اعتقال وزير التنمية الإقتصادية عن حادثة اليوم، هو أن الضربة تصيب الآن، وفي وقت واحد هذه المرة، عدة مؤسسات وبنى سياسية ومجموعات نفوذ ، وتصبح هيئة الأمن الفيدرالي FSB الفائز الفعلي ، حسب المركز.

أظهرت الحادثة الراهنة، حسب المركز، أن FSB قادرة، في وقت واحد، على تجنيد أكثر من مستوى من مستويات السلطة، بدءاً بديوان الرئاسة، ومروراً بقيادة مجلس الإتحاد والنيابة العامة وهيئة التحقيق الفيدرالية، وخصصت لكل مستوى دوره. وبدا أراشوكوف في هذه الأثناء عاجزاً تماما، لا يستطيع الإعتماد على أي حماية له، حتى من رئيس جمهوية كاراتشايفو تشركسيا ، الذي انتدبه إلى مجلس الإتحاد.

وكما علق موقع "kasparov" المعارض، أنه  في ظل الوضع الناشئ هذا، وصمت بوتين حتى عن التعليق على الحادثة، لا يسستبعد المعارضون الليبراليون أن يوجه الأمنيون الروس الضربة التالية إلى رمضان قاديروف نفسه، ويعيدون تطويع القفقاز برمته من جديد .

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024