تعقيب على جورج صبرة:القصة الملتبسة

فايز سارة

الأحد 2019/04/21

إذا أراد إنسان ما، أن يكتب "القصة الكاملة على نحو مافعل الأستاذ جورج صبرة في مقالته: "إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي.. القصة الكاملة" في العربي الجديد 6 نيسان 2019، ينبغي أن يكون أبطالها جميعاً قد ماتوا، أو أنهم خارج التغطية بحيث لايصلهم ما يكتبه صاحب "القصة الكاملة". لان ليس من قصة كاملة، يمكن كتابتها وثمة أشخاص شاركوا في أحداث القصة مثل راويها، سواء أقل أو أكثر منه، وخبروا التفاصيل والخلفيات، بل وصنعوها. وهو ماسعى صبره لتأكيده. إذ كتب يقول في مقدمة مقالته "تناول سياسيون ومثقفون وكتاب سوريون في مواضع متفرقة نشوء إعلان دمشق ...غير أن هذا التناول بقي جزئياً، وذا طابع خاص ومحدود، بقدر مساهمتهم في التجربة، واطلاعهم على مجريات الأمور في بنائها والتفاصيل المرافقة"، ويضيف "جاء التناول انتقائياً استنسابياً، لا يعطي الصورة البانورامية للحدث، ولا التفصيلية أيضاً، ولا يغطي الوقائع والمجريات كما هي، من دون مبالغةٍ في دور، أو تظهير لفعل من دون أفعال الآخرين، أو إخراجه من سياقه". وهو ماجعل صبرة يقول و"هذا ما استوجب رواية القصة كاملة، من أجل الحقيقة والتاريخ، كوني أحد القلائل الذين واكبوا سيرورة الحدث في جميع مراحله، وشاركوا في صناعته وإطلاقه".

لقد أوقع صبرة نفسه في ورطة المبالغة انطلاقاً من العنوان، بحيث وضع نفسه في مكانة العارف المطلع وصاحب الدور الأول والحاضر في كل المجريات والتفاصيل، وباعتباره الحيادي والموضوعي في تناوله سرديات القصة وفي تحليلها. لكن ماكتبه في المقالة المطولة، يأخذنا إلى أماكن أخرى غير ماطمح إليه في تقديم القصة الكاملة، بل أن ماكتبه أشبه بما كتبه سابقوه حول الموضوع، وهذا ما سوف نتناول بعضه.

أول نقاط المبالغة في مقالة الأستاذ صبرة، جاءت في بداية مقالته بصدد الجماعات التي انضمت للإعلان، حيث يقول إنه "ضم أطرافاً سياسية ومنظمات وشخصيات وطنية من مختلف الأديان والطوائف والمكونات الإثنية والأيديولوجية والسياسية للشعب السوري، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار". والحقيقة فاننا لم نعرف في الاعلان حينها ولا لاحقاً جماعات من "اقصى اليمين الى اقصى اليسار"، انضمت الى الاعلان، وكل مانعرفه، ان الذين انضموا من جماعات وشخصيات وافقوا على وثيقة الاعلان، التي هي وثيقة وطنية/ديمقراطية، لتحالف وضع بين أهدافه الأساسية "بناء دولة حديثة، يقوم نظامها السياسي على عقد اجتماعي جديد، ينتج عنه دستور ديمقراطي عصري، يجعل المواطنة معياراً للانتماء، ويعتمد التعددية وتداول السلطة سلمياً وسيادة القانون في دولة، يتمتع جميع مواطنيها بذات الحقوق والواجبات"، ويتعارض هذا المحتوى مع قوى كثير في سوريا وخاصة تلك التي في الاقصى، وهو يتعارض كذلك مع الجماعات الدائرة في فلك النظام من احزب الجبهة الوطنية التقدمية وبعض الاحزاب المرخصة، ومع قوى التشدد والتطرف مثل الجماعات السلفية الجهادية والقاعدة وحزب الاتحاد الديمقراطي (pyd) الذي كان قد تأسس قبل عام.

وللحقيقة فان إعلان دمشق، ضم الجماعات والشخصيات، التي توافقت ووافقت على وثيقته بعد أن ناقشت مسودات متعددة من النص الأول الذي قدمته اللجان إلى نصوص، توالت ليس في نقاشات التجمع الوطني الديمقراطي ولجان إحياء المجتمع المدني فقط، بل بنقاشاتهما مع قوى أخرى وشخصيات وطنية وصولاً إلى صيغته الأخيرة، التي تم إطلاقها يوم إشهار الإعلان بدمشق بحضور ممثلي وسائل الإعلام في دمشق 16/10/2005، والتي كانت هي الأخرى معرضة للتعديل في وقت لاحق.

والنقطة الثانية، سعي الكاتب إلى إعطاء الدور الأساسي للتجمع الوطني الديمقراطي في تأسيس إعلان دمشق، بل وفي مسيرته التالية وصولاً إلى نهاية "القصة الكاملة". وأنا شخصياً كنت أتمنى أن ذلك ماحدث بالفعل، لأنه لو كان للتجمع مثل هذه القدرة، والدور لكان التاريخ السياسي لسوريا تبدل، وكنا اليوم في مكان غير الذي نحن فيها شعباً وبلداً.

وللحق فان أي عمل، يحتاج إلى أمرين أولهما الفكرة، والثاني الحاضنة وقوة الدعم والإسناد التي ستأخذ الفكرة إلى التطبيق. وفي حالة إعلان دمشق باعتباره تحالفاً سياسياً للمعارضة السورية، فان الفكرة جاءت من لجان إحياء المجتمع المدني، التي بادر باسمها كل من ميشيل كيلو وحسين العودات لطرح الفكرة (وبالاسم الذي صار) على اثنين من قادة الإخوان المسلمين في لقاء عرضي تم في المغرب أولا، ثم حملت الفكرة مرفقة بموافقة الإخوان إلى التجمع الوطني الديمقراطي بأحزابه، ثم للأحزاب الأخرى ولاسيما الكوردية وبعض الشخصيات الوطنية، التي لم تكن منضوية في اطر حزبية، لتشكل جميعا مع اللجان حاضنة الفكرة وقوة دعمها وإطلاقها في الواقع السوري.

ولايمثل تأكيد الدور الأساسي للتجمع في تأسيس إعلان دمشق سوى نقطة في القول إن دوره كان محورياً في ربيع دمشق على نحو مايمكن أن يفهم من سياق المقال ومحتوياته، كما هي الإشارة إلى الأنشطة والمبادرات، التي تمت في سياق ربيع دمشق اعتباراً من العام 2000، وصولاً إلى إعلان دمشق في الربع الأخير من عام 2005، وكأنها تمت بجهود الأحزاب السياسية وبينها بيانات المثقفين والمنتديات والاعتصامات…. والظهور على الإعلام والكتابة في الصحف والمجلات وتأسيس منظمات المجتمع المدني الحقوقية والنسائية خاصة، وللحقيقة فان حضور قيادات الأحزاب السياسية بما فيها أحزاب التجمع في هذه الأنشطة كان هامشياً ومحدوداً، بل انه كان خاضعاً لحسابات معقدة بينها ان لاتكشف تلك النشاطات الواقع الهش للاحزاب امام الحراك الثقافي وسط مخاوف قادة الاحزاب من ان يؤدي الحراك لاضعاف احزابهم، ولهم كل الحق، ذلك ان غالبية تلك الاحزاب، لم يبقَ منها سوى اسمها، وقليل من اشخاص يحرسون تاريخها، و يبجلون قادتها.

ربما من المفيد الإشارة إلى ماقاله صبرة في مقالته عن "ظاهرة المنتديات التي نشط فيها السياسيون وأصحاب الرأي (من سوريين وعرب داخل البلاد وخارجها)"، وهو كلام فيه مبالغة ايضاً، من حيث التركيز على "السياسيين" التي تشير حصراً إلى قادة الأحزاب، وقد كان حضورهم ضعيفاَ ومتقطعاً، ولايعكس اهتماماً جدياً بما كانت تمثله المنتديات، أما عن مشاركة "سوريين وعرب داخل البلاد وخارجها" فان بين السوريين الذي جاؤوا من الخارج لم يكن هناك سوى برهان غليون، ولا اعرف عرباً حضروا في المنتديات، باستثناء فلسطينيين سوريين بينهم يوسف سلامة واحمد برقاوي.

الأمر الأسوأ في المقالة، هو محاولة تجميل موقف الأحزاب من انتفاضة القامشلي 2004 ومجانبة الحقائق، اعتباراً من الإشارة إلى الاجتماع مع رئيس مكتب الأمن القومي محمد سعيد بخيتان بناء على مبادرة التجمع إلى القول، إن من نتائج الاجتماع اتخاذ قرار "السفر إلى القامشلي للتضامن مع الإخوة الكرد المستهدفين، وعدم السماح باستفرادهم"، وقيام "وفود النشطاء، من سياسيين ومثقفين، في التردّد على محافظة الحسكة"، وللحقيقة فانه لم يتخذ مثل هذا القرار، وان شخصاً واحداً ممن شاركوا بالاجتماع سافر إلى القامشلي وهو معاذ حمور عضو اللجان وممثلها في الاجتماع، بل ان اللجنة بعد مقابلة بخيتان احالت الموضوع الى الاحزاب الكردية تهرباً من المسؤولية، وقد أدارت اللجان سفر الراغبين إلى القامشلي والفعاليات التي تمت هناك، رغم النصائح والتحذيرات التي وصلتها من الأحزاب بعدم الذهاب نتيجة تهديدات رئيس مكتب الأمن القومي بمعاقبة كل من يذهب إلى القامشلي.

لقد وعدنا الأستاذ جورج بقصة كاملة عن إعلان دمشق، غير أن ماجاء في المقال لم يصل إلى ذلك، اقله في نقاط مفصلية بينها انه لم يقدم لنا شرحاً عما فعله إعلان دمشق في الفترة مابين إشهاره في 16/10/2005 وانعقاد مجلسه الوطني في 30/12/2007. إذا اكتفى في هذا الجانب بمقطع تقريري بأقل من مائة كلمة لعمل الإعلان في أكثر من عامين، بل أن المقطع فيه خطأ جسيم في موضوع "اللجنة المؤقتة" لإدارة شؤون "الإعلان" المؤلفة من حسن عبد العظيم وفداء الحوراني وشيخ أمين عبدي وسليمان الشمر وجورج صبرة"، وتولت إصدار المواقف والبيانات وترتيب اللقاءات مع ممثلي المحافظات، وإجراء الحوارات اللازمة مع القوى والشخصيات التي انتسبت إلى الإعلان"، ولم يرد في القائمة اسم ممثل لجان إحياء المجتمع المدني الذي كان عضواً في اللجنة المؤقتة،.كما لم يشر الى قرار  حزب الشعب استبدال ممثله في الإعلان جورج صبرة برفيقه رياض الترك الذي لم يرد اسمه ابدأً في قيادات اعلان دمشق فهل كان ذلك مجرد سهو، ولم يخبرنا أين أصبح رياض سيف من هذه القيادة، رغم انه خصص فقرة كاملة من مقالته للحديث عن الأثر الايجابي لخروج رياض من السجن في 18/1/ 2006 على إعلان دمشق.

لم يخبرنا صبرة عما سبق عقد المجلس الوطني الأول لإعلان من مشاكل، ومادار داخلها من صراعات كان طرفاها عضوين في التجمع حزب الشعب الديمقراطي والاتحاد الاشتراكي العربي، وكيف سعت اللجان إلى وقف هذه الصراعات أو الحد منها دون أن يتحقق ذلك لاصرار الطرفين على الذهاب الى حد القطيعة، والتي مازالت قائمة بعد نحو عقد ونصف العقد من السنوات. ربما لم يخبر الرفاق ، ممثلو حزب الشعب الحاضرين في المجلس رفيقهم بما جرى، وبالتالي فان صبرة، اكتفى بتقرير سردي بسيط، أكد انتخاب قيادة الإعلان، قبل أن يجزم أن المشاركين في المجلس "أنهوا مهامهم المجدولة، واختتموا اجتماعهم بسلاسة ويسر".

لقد أدت صراعات طرفي التجمع الأساسيين داخل الإعلان إلى تمزقه بخروج الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل، وتكرس ذلك مع اعتقال النظام لاثني عشر(وليس 14 كما ورد في المقالة) من قياداته بينهم رئيس المجلس الوطني فداء حوراني ورئيس الأمانة رياض سيف، وكان بين المعتقلين أربعة من أعضاء اللجان علي العبد الله وأكرم البني واحمد طعمة وفايز سارة. إضافة إلى وليد البني وجبر الشوفي وطلال ابودان وياسر العيتي ومحمد حاج درويش ومروان العش.

ورغم أهمية ماسبق في مجرياته على إعلان دمشق، فقد كانت المرحلة التي أعقبت انعقاد المجلس الوطني، الأخطر في هذه التجربة، والتي تعاني المعارضة اليوم من تداعياتها، وعن هذه المرحلة الممتدة مابين نهاية 2007 وانطلاق الثورة في آذار 2011 لايقدم صبرة أي معلومة أو شيء له قيمة في التجربة، بل مجرد اخبار عادية: "أسس الإعلان لجاناً في جميع المحافظات السورية"، وعُقد مؤتمران لمنظمات المهجر على التوالي اولهما ببروكسل في تشرين الثاني 2010، وانتخب أنس العبدة رئيساً للأمانة العامة في المهجر، وعبد الرزاق عيد رئيساً للمجلس الوطني. والثاني في إسطنبول في كانون الثاني 2014 ، وانتخب صخر عشاوي رئيساً للأمانة العامة، ومحمود الحمزة رئيساً للمجلس الوطني.

بخلاف الاخبار الثلاثة الى أوردها او اضافة لها، كان الاولى به ان يقول لنا، كيف واجه الاعلان اعتقال قياداته، وكيف تم المجئ بالقيادة الجديدة، واين كان موقعه منها، وكيف جرى التخلي عن العمل العلني الذي اصر إعلان دمشق على تبنيه عند تأسيسه، وجرى أخذه الى العمل السري، وتحولت قيادته الى قيادة سرية، وصار تنظيمه أشبه بتنظيمات الاحزاب السرية، وهذه لاشك انها بعض القصة الكاملة التي وعدنا بها.

كلمة اخيرة لابد من قولها، ونحن نستعيد حدث تأسيس اعلان دمشق بما كتبه الاستاذ صبرة وما كتب عنه من تعقيبات بعد نحو عقد ونصف من سنوات، فلابد من الاشادة بالجهود التي بذلها الفريق المشترك من التجمع الوطني الديمقراطي ولجان احياء المجتمع المدني في نقاش فكرة اعلان دمشق، والدفع بها نحو التحقق بمشاركة قوى واحزاب وشخصيات سورية. لقد كانت التجربة فرصة رائعة لجمع المختلفين، وتشاركهم في صنع كيان سياسي موحد للمعارضة، وهو أمر يحتاجه السوريون اليوم. ليس فقط في مستوى علاقات المعارضة، ولا في المجال السياسي، بل في مستويات الحياة السورية كلها. ان التوافق والتشارك والعمل المشترك هو تحدي السوريين الرئيسي اليوم وفي المستقبل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024