القاهرة 2050: مدينة لم تعد موجودة

شادي لويس

الأربعاء 2021/02/10
تعمل الجرافات على تسوية وجه القاهرة على مدار الساعة. إقامة الجسور العلوية، مستوىً فوق آخر، مع شق المحاور السريعة في قلب العاصمة وحولها، يعني استئصال أحياء بأكملها أو تغيير معالم مناطق أخرى بحيث لم يعد ممكناً التعرف عليها. عمليات إزالة منطقة عرب اليسار من منطقة القلعة، مشروع "عين القاهرة" في حي الزمالك، تفريغ مثلث ماسبيرو من سكانه، الضجة التي ثارت حول كوبري كنيسة البازيليك في مصر الجديدة قبل أيام، مشروع نقل منطقة الصاغة، تباهي المتحدث الرسمي لرئاسة الجمهورية هذا الأسبوع بمسجد العاصمة الجديدة وسِعَة المئة ألف مُصلٍّ، الاعتداءات الحكومية الممنهجة على مقابر القاهرة الإسلامية، كل هذه تفاصيل متفرقة لمشروع أضخم، لا يتعلق بعمران القاهرة فحسب، بل بمعنى الاجتماع البشري في العاصمة الهائلة، تلك التي يدعوها سكانها والقادمون إليها من الجوار: مصر.

معضلة "باريس على النيل" كما سُمّيت في ذاكرة العصر الخديوي المؤسَّسة على الأوهام، هي أنها تشبه العاصمة الفرنسية في أمر واحد. أي بالشكل نفسه الذي يصف به ديفيد هارفي أزمة باريس العمرانية أوائل الستينات "القديم لا يمكنه البقاء لكن الجديد بشع". الإشارة إلى العاصمة الفرنسية ليست عرضية بالطبع. فمن قبل هارفي بأكثر من قرنين، كتب إنغلز، بأن الرأسمالية "لديها أسلوب واحد لحل مشكلة السكن، بطريقة يؤدي فيها الحل إلى طرح المشكلة من جديد"، ويسمّيه أسلوب "هوسمان". فبحسب التصميم الذي وضعه البارون جورج هوسمان لمدينة النور، أصبح من السهل للأمن التصدي لأي محاول للتمترس داخل المدينة على غرار ما حدث في "كومونة باريس"، ويصف إنغلز هذه العملية باريسية الأصل، بدقة مذهلة، ونراها تتكرر إلى اليوم بتفاصيلها في كل مكان آخر. هي "الاختراق" بمعناه العمراني، وبالأخص للأحياء التي تسكنها الطبقات الفقيرة، باسم التجميل أو التطوير أو السيولة المرورية أو الأمن، وما يستتبعه ذلك من نزع الملكيات والاستيلاء على الأراضي وتشريد السكان أو نفيهم إلى الأطراف، لتتكرر العملية مرة أخرى.

كان مشروع القاهرة 2050، وهو أحد مخططات لجنة السياسات في الحزب الوطني، ما يشبه البرنامج الانتخابي لجمال مبارك، وكانت تتوافر له كل أركان المانفيستو العمراني لليبرالية شاملة، تهيمن على التخطيط الحضري وتعيد تشكيل الفضاء العام. بحسبه، تُختزل القاهرة في مجرد شبكة من مسارات التدفق المروري السريع، ومجموعة "مَعالم" جاذبة للأنشطة السياحية والترفيهية، مع العمل على توسيع المسافات الجغرافية بين الأحياء السكنية لتعكس التفاوت الطبقي لقاطنيها. والهمة التي يعمل بها النظام الحالي على مشاريعه الإنشائية، هي في جانب منها، ردّ فعل عنيف على ثورة يناير، أي على التجربة الشعبية القصيرة للسيطرة على الفضاء المديني مادياً ومعنوياً، في "كومونة التحرير" الخاصة بنا. لكن، ومع ذلك، تظل تلك الحماسة الحكومية امتداداً للمشاريع الموروثة من عهد مبارك، وخياراً واعياً للمضي في سياسات اللبرلة إلى نهايتها مع تسريع وتيرة عملياتها، والاتكاء في ذلك على الكثير من العنف المباشر.

كردّ فعل على أزمة عمران باريس، يكتب الماركسي الفرنسي هنري لوفيفر، في نهاية الستينات: "المطالبة بالحق في المدينة هو في الحقيقة مطالبة بالحق في شيء لم يعد موجوداً". على العكس من إنغلز، الذي أراد إلغاء المدينة والفارق بين الحضر والريف كطريقة للقضاء على تقسيم العمل، فإن لوفيفر رأى المدينة كيوتوبيا، المشروع الطوباوي المفتوح أمام الجميع للاستمتاع بالحياة بحرية وعلى قدم المساواة. لكن اللهاث للحاق بالتغيرات المتسارعة التي يفرضها رأس المال، يجعلها وكأنها غير موجودة. ومع هذا تظل مدينة لوفيفر حقيقية، لا هي خيالية ولا فوق واقعية، بل رؤية ومحاولة دائمة ومتجددة، تسعى إلى كتابة المدينة كنص معماري، أعظم النصوص كما يقول، وإلى قراءتها وفك رموزها الاجتماعية بالآف الطرق عبر العيش فيها بشكل يومي.

لكن كل حلم بمدينة فاضلة هو في ذاته احتمال قائم بديستوبيا. البشاعة التي تتميز بها محاولات النظام المصري لإعادة تشكيل القاهرة وامتداداتها الحضرية، لا تأتي من سوء تخطيط أو افتقار للحس الجمالي مع جهل بقيمة التراث، كما يذهب البعض. بل هي على الأرجح، نتاج وعي سلطوي بأن المدينة هي الجانب التقني لشكل الجماعة البشرية، والترجمة المادية لأيديولوجياتها ومنجزاتها المتراكمة عبر الأجيال. يدرك النظام هذا أن القاهرة أكثر من مجرد مركز لعمليات الإنتاج المادي، بل ماكينة لإعادة إنتاج البشر أنفسهم، وكل ما يتعلق بطرائق عيشهم الجماعي.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024