آلام الوطنية

محمد خير

السبت 2019/07/20

كأنما هناك من نكأ جرحاً في أجسادهم. ثارت ثائرة بعض من فوجئوا بأن ثمة مصريين شجعوا الجزائر خلال منافسات كأس أمم إفريقيا التي اختتمت في القاهرة أمس الجمعة، وتوّج بها "الخضر". إذ، وكعادة أبناء التطرف الوطني، يختار أولئك عدواً أو اثنين يركزون فيه طاقة الكراهية التي تستمد قوتها من إعادة إشعال النار في رمادها كل حين. وليس سراً إن الجزائر لطالما كانت "العدوّ" المختار في المجال الكروي المصري، والعكس صحيح، والسبب واضح بعيداً من الأساطير. فمصر والجزائر هما البلدان الأكبر، سكانياً ورياضياً، في شمال قارة إفريقيا، مما وضعهما باستمرار في مواجهات كروية على "التأهل الأخير" أو الفوز بالبطولة.

وحيث أن ملاعب كرة القدم هي المجال الذي تمت إزاحة الوطنية إليه في كثير من بلدان العالم الثالث المحبطة، فإن المنافسات الكروية بين البلدين سرعان ما أخذت تنقلب إلى منافسات وطنية تُستخدم في تأجيجها كلمات أقرب إلى قاموس الحروب. ولأن الكلمات تصير أفكاراً، والأفكار تصبح أفعالاً، فقد تراكم الغليان حتى بلغ ذروته قبل عشر سنوات، في أيام احتقان اجتماعي وسياسي شامل لا غرابة في أنها سبقت الربيع العربي بأشهر معدودة. ثم وقع الصدام الشهير بين جمهور البلدين، في أم درمان السودانية العام 2009، وهو صِدام حملت أخباره من المبالغات أضعاف ما نُقل من الحقائق. وبعد عقد من الزمن، يقرر الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، فجأة، سحب تنظيم بطولة كأس الأمم من دولة الكاميرون، فتتقدم لاستضافتها مصر، وتفوز بحق التنظيم، ثم يحدث أن يخرج الفريق المصري خروجاً مخزياً في مرحلة مبكرة من البطولة، فيما قدّم الفريق الجزائري أداءً مبهراً.

هنا، قرر قطاع من الجمهور المصري، خصوصاً الأصغر سناً، ممن لم يشهدوا تاريخ "النزاع" بين فريقي البلدين، تشجيع "الخُضر". وفي مقابل هؤلاء، قرر حاملو الأحقاد القديمة، معالجة ذلك "الخطأ" الفادح من طريق تذكير "السذج" الذين يشجعون "الأعداء"، بماضي الصراع بين البلدين، وتحذيرهم من الوقوع في "خيانة" تشجيع الخصم التاريخي.

تُعرّف الوطنية، في ما تُعرّف، أولاً، على أنها "شعور" قومي، ولأنها شعور فهي غالباً لا تخضع للمنطق، بل تتكون في معظمها من عناصر معنوية، مثل الولاء، والفخر، والانتماء والحب والحماسة، وغيرها من المكونات السائلة التي يسهل صبّها في قوالب متعددة، بل متناقضة أحياناً. فكثيراً ما يتخذ "الوطنيون" مواقف معاكسة تماماً، انطلاقاً من وطنيتهم. ولطالما أثار ذلك الكثير من القلق، بل وردود أفعال عكسية كالتي عبّر عنها اليوناني كازنتزاكيس على لسان بطله الشهير "زوربا"، حين أعلن أنه "شُفي من الوطنية". ويعبّر عن القلق نفسه، مؤخراً، وإن بتردد أقل، النيجيري حامل "نوبل"، وول سونيكا، في حواره مع هنري غيتس، معتبراً أنه كان على استعداد لتمزيق جواز سفره النيجيري إن نفّذت عقوبة الرجم في حق امرأة، كما مزق بطاقة إقامته الخضراء في الولايات المتحدة الأميركية بعد انتخاب ترامب.

لكن المشجعين المصريين، الذي آزروا الجزائر في ملاعب القاهرة، لم يكن لمواقفهم -غالباً- تلك الأسباب الوجودية. لقد أعجب بعضهم، ببساطة، بمهارات الجزائريين. أما البعض الآخر، فأخذهم شعورهم الوطني إلى تشجيع "الخصم الجزائري" نكاية في الإذلال الذي عرضهم له فريقهم الوطني، ليس لسوء أدائه في الملعب فحسب، بل بسبب اللامبالاة، والتعالي الذي بدا على أعضاء الفريق، وبسبب التورط في أزمة أخلاقية دعم فيه اللاعبون زميلاً متحرشاً. أزمة افتتحت سؤال الوطنية مع بدء المباريات: "هل من الوطنية أن تشجع فريقاً دعم بعض لاعبيه التحرش الجنسي"؟ أم الوطنية هي أن تشجع "فريق بلدك" مهما كانت الظروف؟

بعض من انتهجوا الخيار الأخير وقرروا "التشجيع مهما كانت الظروف" شعروا بالندم حين اكتشفوا أن اللاعبين المصريين سجلوا، مسبقاً، اعتذاراً مدفوعاً عن الهزيمة، في دعاية إحدى الشركات التجارية. كانت تلك القشة التي قصمت ظَهر شعورهم الوطني، حين وجدوا أن الوطنية نفسها كانت، عند اللاعبين ومواطنيهم، مجرد إعلان تجاري مدفوع الأجر.

كان ذلك إذن هو الإخفاق: الأداء السيء في الملعب، اللامبالاة والخروج المبكر، التلاعب بمشاعر الجمهور.. وهو ما وضع شعور الوطنية في مأزقه خلال بطولة رياضية كان من طبيعتها أن تشحن ذلك الشعور، لا أن تأزّمه. لكن الوطنية، التي لا تهزمها التحديات، يقهرها الإهمال والفشل، والخيبة حين تبلغ حدود الاستفزاز. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024