"إما النصر.. وإما مصر"

شادي لويس

الثلاثاء 2019/04/16
النموذج هو مخطط للأحداث قابل للنسخ والتدوير، صالح للقياس عليه والمقارنة به في الحاضر، ومُعين للتنبؤ بالمستقبل. والنموذج، على غير المثال، ممكن، لأنه حدث بالفعل في الماضي، وقابل للتحقق في المستقبل مرة أخرى.

يهتف السودانيون في مظاهراتهم "إما النصر، وإما مصر".. في تنويع على شعار "إما النصر وإما الشهادة". وهو تنويع لا يخلو من سخرية جادة، وهلع من مستقبل لا يمكن تبيّن ملامحه. في الجزائر، خرجت شعارات مشابهة، محذرة من الهزيمة المصرية، وبعضها يشير إلى السيسي بالإسم. تفتتح الصحف الغربية تعليقاتها على الأحداث المتسارعة في المنطقة، بعناوين متقاربة: "كيف للسودان والجزائر تفادي المصير المصري؟"، أو بلهجة ناصحة "يجب على السودان والجزائر تفادي المصير المصري".

النموذج هو البوصلة في لحظات الاضطراب وتشوش الرؤية. الطريق الواصل بين المجهول الذي نقف أمامه على مفترق طرق، وبين اليقيني الذي وقع في الماضي. كانت مصر هي النموذج في الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي. حدث ما حدث في تونس على وجه السرعة، تسارعت الأحداث قبل أن تدرك وسائل الإعلام ما يحدث وتنقله. تونس كانت، بلا شك، النموذج المُلهم للمصريين في يناير 2011، وأضحى ميدان التحرير لاحقاً هو النموذج لليبيين واليمنيين والسوريين والبحرينيين، وعشرات الميادين حول العالم. لكن النموذج، كما يبدو ملهماً، إلا أنه - وكوصفة جاهزة للحياة أو تعويذة ضد انعطافات القدر- يحمل في داخله قيداً على الخيال، وتبسيطاً مخلاً للعالم ومساراته الممكنة، وتصوراً للتاريخ وكأنه إعادة للماضي ولحلقاته في نسخ مكررة من أصل واحد.

للديكتاتورية نماذجها أيضاً. فليس أقوى من الخوف من أن يشبه مستقبلنا، الماضي المروع للآخرين، أو أن تعيد المأساة نفسها من مكان لمكان. أضحت سوريا النموذج المضاد، الأكثر تفضيلاً للأنظمة الحاكمة: كل ثورة تنتهي بالخراب، وينبغي تفاديها بكل الطرق. وراء كل نموذج حكمة مستترة، وكل واحدة منها تشبه حكاية للأطفال مشبعة بالعِبر.

اليوم عادت مصر لتكون النموذج، والنموذج المضاد، في آن واحد. خرج المحتجون في السودان والجزائر حاملين شعارات مشابهة لتلك التي رفعت في ميدان التحرير، ومستعينين بوسائل الضغط نفسها، تقودهم الطموحات ذاتها. لعبت الأنظمة في البلدين على النموذج نفسه أيضاً، وصفة إزاحة رأس النظام، ومغازلة الجماهير بالتغييرات الصُورية وشعارات "الشعب العظيم". اللعب على عامل الوقت والإجهاد وتململ الجمهور الأوسع، التعويل على الشروخ التي ستتسع بين صفوف المعارضة، وتأليب فصائلها بعضها ضد بعض، اللعب باللجان الإلكترونية والشائعات والتحرش بالنساء، وغيرها.

للشعوب ذاكرة ضعيفة بالطبع. لكن هزيمة الثورة في مصر ما زالت جروحها مفتوحة، وأحداثها جزءاً من الذاكرة الحية. كان معنيّاً بالانتقام المروع من يناير، أن يكون عبرة لمن يعتبر، لكن النماذج المضادة تنقلب أحياناًَ إلى عكسها، وتضحي دروساً في الثورة. فمن حُسن حظوظ الجماهير في السودان والجزائر، أن تكون مسلحة بتلك المعرفة، التراكم القريب لدروس التاريخ، والمعاينة الحية لمصائر الآخرين.

في القاهرة وغيرها من العواصم العربية، تتعلق العيون بما يجري في الجزائر والخرطوم، ليس فقط من باب التضامن، بل بالأحرى في انتظار نماذج جديدة، إمكانية أخرى للمستقبل تُصنع في الحاضر، يقين يمكن التشبث به في مواجهة المجهول الآتي، درس يراكم إضافة إلى تراث عربي معاصر للثورة، قفزة أخرى في طريق طويل نحو مجتمعات أكثر عدالة وديموقراطية وكرامة في منطقتنا. تظل مصر، اليوم، وعن حق، مضرب مَثَل، عِبرة للتعلّم، لا للتشفي أو التخويف.. لكن ربما لن يمر وقت طويل قبل أن يتغير هذا كله.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024