ماكرون بونابارت أم "المنقذ"

بسام مقداد

الخميس 2020/09/03
لم تنل زيارة ماكرون الأخيرة للبنان إهتماماً يذكر من جانب الكرملين والروس بشكل عام . فأنظار الروس موزعة هذه الأيام بين إنتفاضة البيلوروس المستمرة منذ 9 آب/أغسطس المنصرم ضد الديكتاتور الصغير لوكاشنكو ، وجريمة تسميم المعارض الروسي الرئيسي ألكسي نافالني . وإذا كان الكرملين قد حسم أمره في الحدث البيلوروسي بعدم السماح بإسقاط لوكاشنكو ، وجد نفسه في ورطة كبيرة بالنسبة لجريمة تسميم نافالني ، سيما بعد أن أعلنت السلطات الألمانية رسمياً ، مساء الأربعاء في 2 الشهر الجاري، بأن نافلني قد تم تسميمه بالسم نفسه "نوفيتشوك"، الذي سبق أن سُمم به في بريطانيا ضابط الأجهزة الروسية الفار سكريبالا وابنته. واضطر الكرملين الى الإعلان فوراً ، على لسان الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف ، عن الإستعداد للتعاون مع السلطات الألمانية في هذا الأمر، بعد أن كان يصر على نفي فرضية تسميم المعارض نافالني ، الذي يُعالج في عيادة ألمانية متخصصة.
 

في العودة إلى زيارة ماكرون للبنان ، لم تحظ هذه الزيارة ولا الزيارة الأولى ، بتصريح أو تعليق من قبل مسؤولي الكرملين ، ما عدا ما أُذيع عن إتصال هاتفي بين الرئيس فلاديمير بوتين وبين ماكرون ، إثر الزيارة الأولى ، استعرضا خلاله شؤون الأزمة اللبنانية . أما المواقع والصحف الروسية غير التابعة للكرملين مباشرة ، فقد حفلت بالتعليقات والتقويمات المختلفة للزيارة والأهداف الفرنسية من ورائها .
 

وكالة "eadaily" الإخبارية الروسية ربطت بين زيارة ماكرون والغارات الجوية الإسرائيلية على المواقع السورية ، حيث نشرت في الأول من الشهر الطالع نصاُ بعنوان "ماكرون في لبنان وإسرائيل لا تهتم : دمشق تُهاجَم بضربات صاروخية" . وتقول الوكالة ، أن القيادة العسكرية السياسية للدولة العبرية ترسل بضرباتها هذه إشارة إلى أنه لا توجد قيود في مسألة عدم السماح بتعزيز الوجود العسكري الإيراني في سوريا. وجميع الضربات الإسرائيلية الأخيرة في سوريا ، كانت تستهدف مواقع المقاتلين الموالين لإيران ، وكذلك منظومات المضادات الجوية ، بما فيها تلك ، التي نقلتها طهران إلى جوار دمشق  في إطار إتفاقية تموز/يوليو العسكرية بين طهران ودمشق . 

المواقع التي علقت على الزيارة الأولى أو الزيارتين ، كان الميل فيهاً واضحاً لإثارة الشكوك حول نجاح الزيارة والتشكيك بأهدافها . موقع "Radio Sputnik" الناطق بالروسية تساءل في الأول من الشهر الجاري ما إن كانت مظاهرات اللبنانيين ضد السلطات المسؤولة عن جريمة إنفجار المرفأ تشكل تهديداً لزيارة ماكرون ، من دون أن يوضح شكل هذا التهديد أو ماهيته . صحيفة الإزفستيا المعروفة نشرت في 13 الشهر المنصرم نصاً مطولاً تحدثت فيه عن الإشتباه بمخططات إستعمارية جديدة للرئيس ماكرون ، في حين يؤكد هو نفسه ، بأنه لا يريد سوى مساعدة بيروت على تخطي نتائج الكارثة . وتقول بأن صفتين أُطلقتا في الأيام الأخيرة عليه ، إثر سلوكه في تنظيم المساعدات للبنان : "ماكرون بونابارت" و"المنقذ" .  وتتساءل عن الصفة منهما ، التي تنطبق عليه فعلاً ، حيث يرى البعض في جهود قصر الإليزيه رغبة حقيقية صادقة في مساعدة لبنان على الخروج من الأزمة الإقتصادية والحكومية ، التي يتخبط فيها ، والبعض الآخر يرى في هذه الجهود رغبة باريس في المشاركة باللعبة الجيوسياسية ذات المنحى الإستعماري الجديد . 

وبعد أن تستطرد الصحيفة في حديث مطول عن الوضع اللبناني ، تقول بأن الإنفجار في مرفأ بيروت لفت الإنتباه إلى البلد ، الذي يعاني من أزمات عديدة في وقت واحد ، لكن الأزمة السياسية هي الأهم من بينها ، والأزمات العديدة الأخرى في الإقتصاد والصحة العامة والحقل الإجتماعي ، ليست سوى نتاجات مؤلمة لها . لكن السياسة في لبنان فقدت مصداقيتها ، إذ أنها حقل مقفل يحول دون التناوب في المواقع ، كما يقول للصحيفة ، غريغوري لوكيانوف خبير المجلس الروسي للعلاقات الدولية . هكذا درجت الأمور عليه في لبنان منذ 100 عام ، حيث يعيش لبنان في ظل الأنظمة عينها ، التي أفضت إلى الحرب الأهلية في السبعينات . ومن الصعب التأكيد بأن لبنان قادر على الخروج من هذه الأنظمة بقواه الذاتية . وثمة ما يكفي من الراغبين في "مساعدة" لبنان ، بما فيه وسط الدول الإقليمية . وعلى الرغم من أن علاقات لبنان التاريخية واللغوية تمنح باريس الأفضلية في ذلك ، إلا أنه سيتعين على ماكرون التعامل ، ليس مع القيادة اللبنانية فقط ، بل ومع إيران وأعدائها الإقليميين ، الذين يتمتعون بنفوذ هائل على الشيعة والسنة في لبنان متعدد الطوائف. والسؤال هو ، أي مساعدة وفي ظل أية شروط ، سوف يقبل بها اللبنانيون وسياسيوه . 

من جهتها ، صحيفة "NG" ، التي تقول بأنها مستقلة ، نشرت في مطلع الشهر الجاري مقالة بعنوان "ماكرون يوجه إنذاراً إلى لبنان" ، قالت في عنوانها الفرعي بأن باريس تقرر ما إن كانت بيروت مستعدة لإصلاحات جذرية.

تقول الصحيفة ، بأن الهدف الرئيسي لزيارة الرئيس الفرنسي الثانية لبيروت في أقل من شهر ، يتلخص في تقدير مدى إستعداد السلطات اللبنانية لإجراء إصلاحات سياسية وإقتصادية جذرية . وعلى ضوء ذلك سوف تتقرر مسألة تقديم المجتمع الدولي مساعدة مالية لبيروت وحجمها . إضافة إلى ذلك سوف يتابع ماكرون تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة برئاسة السفير السابق مصطفى أديب . وكانت الأحزاب السياسية اللبنانية الرئيسية قد توصلت إلى توافق حول اختيار أديب لمنصب رئيس الوزراء ، قبل ساعات من وصول طائرة الزعيم الفرنسي إلى بيروت . ولولا الضغط المتواصل من جانب ماكرون ، لكان من شأن كبار الساسة اللبنانيين أن يناقشوا ترشيح أديب لعدة شهور ، مظهرين بذلك عجزهم عن حل المسائل ، التي تتطلب حلولاً سريعة ، حسب الصحيفة . 

وكانت المشاورات بين السياسيين اللبنانيين الرئيسيين بشأن رئاسة الحكومة ، قد وصلت قبل ذلك أكثر من مرة إلى طريق مسدود . وليس غير الضغط الهائل من جانب باريس قد سمح ، في نهاية المطاف ، بحل هذه المسألة . ومن الواضح أنه سيتعين على الفرنسيين مساعدة اللبنانيين مجدداً ، من أجل التشكيل السريع للحكومة لتفادي تقاسم الحقائب الوزارية المعتاد في لبنان ، والذي قد يطول لأشهر . وليس من الصدفة إن كان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان ، قد سبق أن حذر السياسيين اللبنانيين من عدم الإطالة في تشكيل الحكومة ، وإلا فإن لبنان "قد يزول بسرعة" ، حسب الصحيفة . 

في ظل الظروف الراهنة ، فائقة الصعوبة بالنسبة للبنان ، كثيرون من كبار الساسة اللبنانيين ، بمن فيهم الرئيس عون ، موافقون ، بالكلام ، على ضرورة تغيير النظام السياسي ، وإلغاء القواعد الطائفية في تشكيل السلطة . لكن السؤال يبقى ، إلى أي مدى سوف يبقى حماسهم لإجراء الإصلاحات ، حسب الصحيفة.

تعود الصحيفة في نهاية المقال إلى السياق العام للمواقع والصحف الروسية في التشكيك بمصداقية مهمة ماكرون وبأهدافها وغاياتها . فتقول ، بأن ليس جميع اللبنانيين يأملون في "مساعدة أخوية" من الفرنسيين ، حتى وهم يعتبرون نخبتهم السياسية فاسدة كليا ، وغير كفؤة . فالرئيس الفرنسي يقوم ، في الحقيقة، بلي ذراع لبنان المنهك ، وهو يطالبه ، ليس بإجراء الإصلاحات التي تأخرت ، بل يطالبه  بتغييرات تلائم الغرب ، وبالدرجة الأولى ، بالحد من نفوذ حزب الله المدعوم من إيران . فهو يقول للبنانيين ، عملياً ، إما أن تنفذوا الإصلاحات ، التي توافق مصالحنا الغربية ، أو لن تحصلوا منا على شيء.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024