سوريا: ثماني سنوات حرب

عمر قدور

الثلاثاء 2020/12/22
مع نهاية عام2012 كانت سلطة الأسد قد نجت من الخطر الذي يهدد سيطرتها على دمشق، بل كانت قواتها "مع ميليشيات حزب الله والحرس الثوري الإيراني" قد أخذت زمام المبادرة في الهجوم، ومن ثم فرض حصار على مناطق في غوطَتي دمشق. عملياً انتهت معركة العاصمة، على الصعيد العسكري بانكفاء الفصائل المهاجمة إلى وضعية الدفاع خلال السنوات اللاحقة، ورمزياً بما كانت تحمله هذه المعركة من وعد بإسقاط النظام.

منذ ذلك التاريخ صار المعنى الحقيقي لتشجيع فصائل محسوبة على المعارضة، وأحياناً فصائل غير محسوبة عليها، هو عدم تسليم سوريا كاملة لبشار الأسد كي ينكّل بالمناطق المُستَرجعة وبفكرة الثورة من أصلها. لسان حال جمهور الثورة كان أن لا يربح بشار، وأن تكون الثورة قد تسببت بخسارته رغم فشل الخيارين السلمي والعسكري. أي أن الافتراق بدأ، منذ ذاك الوقت، بين الخيار العسكري والحرب لصالح منطق الأخيرة وحساباتها غير المبدئية في معظم الأحيان، وحتى القذرة في الكثير من الأحيان.

سيتضح، مع مرور قليل من الوقت، أن إدارة أوباما قد أعطت الإشارة بتحول سوريا إلى ساحة للصراع الإقليمي والدولي تحت مسمّى "لا وجود لحل عسكري في سوريا". تلك كانت العبارة التي راح يتناوب على تكرارها مسؤولو إدارته، ثم جرى تردادها من مسؤولين غربيين آخرين بحكم الأمر الواقع. فحوى العبارة هو عدم إسقاط بشار، أو ليس قبل أن تُستنزف إمكانيات هذه الساحة وأن تُمتحن قدرات المنخرطين فيها. استكمالاً لما سبق، لن يمر وقت طويل قبل بدء الحديث عن "تصفير بشار"، أي جعل قيمته صفراً في الصراع الدائر بدل أن يكون مركزه وفق الثورة عليه، وهو ما سنراه جلياً مع التدخل الإيراني ثم الروسي لحمايته، وإلحاح الروسي منهما على إبراز تلك القيمة المعدومة.

كما نذكر كان الحديث عن "أسلمة الثورة" قد بدأ، مع انتباه أقل من أصحابه إلى التدخل الإيراني "عبر حزب الله والحرس الثوري أولاً"، وبشعارات مذهبية كان يمكن وضعها في خانة استفزاز الجانب المقابل لو لم تكن وظيفتها الأولى والأصلية شدّ عصب الجمهور المحلي. على أية حال، لم تكن جولة ما سُمّي "الصراع الشيعي-السني" بعيدة عن "لا وجود لحل عسكري في سوريا"، إنها أول ترجمة "إقليمية" للتوجه الأمريكي. لم تختر الدول الخليجية الداعمة العروبة كمدخل للصراع مع النفوذ الإيراني، والعصب العروبي لم يكن من عدّتها يوماً بل كان دائماً من عدة أنظمة ساقطة أو قيد السقوط، بخلاف التيارات الإسلامية الصاعدة، وأيضاً بخلاف المزاج الخليجي العام ونظيره الرسمي الذي لم ينقلب بعد ليصم الربيع العربي كله بالأسلمة.

تحت لافتة "الصراع الشيعي-السني" دارت أول حرب خارجية في سوريا، وانتهت عملياً إلى خسارة الطرفين الإقليميين، فلا المحور الخليجي الذي كان داعماً استطاع إحراز انتصارات يُعتدّ بها، ولا طهران وميليشياتها التي أصبحت تعدّ بالعشرات تمكنت من السيطرة على سوريا. لم يكن تفصيلاً هامشياً في هذه الجولة توافد جهاديين من تنظيمات معروفة سابقاً أو اصطناع تنظيمات جهادية جديدة، خاصة بعد الهجوم الكيماوي على الغوطة والتسامح الأمريكي معه، فاستدراج الجهادية السنية كان في صميم الرغبة الأمريكية، وإلى حد ما رغبة دول أوروبية، للتخلص من متطرفي الطرفين، الأمر الذي عبّر عنه أوباما بصراحة في حديث تلفزيوني بعد نحو عامين.

كان أيمن الظواهري قد دعا في شباط2012 إلى الجهاد في سوريا، وسبقه بشهر الإعلان عن إنشاء جبهة النصرة بقيادة الجولاني، إلا أن تمكن الجهاديين وسيطرتهم على مساحات واسعة "على حساب الفصائل التي حررتها من الأسد في كثير من الأحيان" أتى لاحقاً، ليشتد إثر الهجوم الكيماوي. وفي أفصح تجلّ لمفهوم الساحة، سيأتي الجهاديون الشيشان والإيغور كأنهم يخوضون في سوريا الحرب ضد موسكو وبكين المساندتين لبشار الأسد، بينما سيأتي جهاديون غربيون غاضبون أيضاً من السياسات الغربية، ويحمّلونها مسؤولية العديد من مشاكل المنطقة وصولاً إلى مسؤولية الغرب عن بقاء بشار في الحكم.

لعل أهمية تحويل بلد إلى ساحة هي أيضاً بمقدار ما تتسع الساحة لأهداف متباينة، فضلاً عن تفريغ فائض العنف الكامن في أماكن أخرى بتكلفة أقل. لقد رأينا مثلاً زعيم حزب الله في خطاب علني يدعو خصومه اللبنانيين إلى ملاقاته للتحارب في سوريا، بمعنى أن يُحلّ الصراع الداخلي اللبناني في ساحة أقل كلفة، وهو معنى كامن أيضاً في التحالف الدولي ضد داعش، إذ كانت الحرب على الأخير في جانب منها حرباً على مقاتلين آتين من دول التحالف ذاتها ومن "المستحسن" قتلهم في أرض لا محاكمات فيها ولا قوانين تمنع عقوبة الإعدام. على سبيل المثال، عبّر 89% من الفرنسيين عن قلقهم من عودة المتطرفين إلى البلاد، بينما رفض 67% حتى عودة القاصرين المولودين من أبوين جهاديين، وفق استطلاع أجري في شباط2018، بينما كان الموقف الرسمي ينص على محاكمة أولئك المتطرفين في المكان الذي ارتكبوا فيه جرائمهم مع تكرار موقف السلطات الفرنسية الرافض عقوبة الإعدام المطبّقة هناك!

في نهاية أيلول2015 أسدل التدخل الروسي الستار رسمياً على حقبة "الصراع الشيعي-السني"، ثم "على مراحل" طويت حرب استنزاف قوات الأسد والحليف الإيراني، أبرزها كان قبل أربع سنوات مع تسليم حلب. موضوعياً، كان لطي تلك الحقبة أن يبرز صراعات جديدة، فتل أبيب مثلاً صارت بحاجة أكثر من قبل إلى استهداف القوات الإيرانية في سوريا، والانسحاب الخليجي من سوريا "بالتزامن مع التدخل الروسي وربما التنسيق معه" أعقبه انسحاب من لبنان، ليبرز لاحقاً الصراع الداخلي اللبناني متحرراً من مظلة الصراع الشيعي-السني، ومن انتظار مآل الصراع على سوريا. تركيا التي لم تكن قد دخلت مباشرة في الحرب ستصبح رسمياً طرفاً فيها، وسيعلو ضجيج الصراع السني-السني ثم الانقسام الخليجي بأقوى مما كان عليه سلفهما.

إن تحويل أي بلد إلى ساحة صراعات متشابكة ومعقدة يقتضي تنحية الصراع الداخلي، ويعني غالباً تحويل عناصر ذلك الصراع إلى أدوات للصراعات الخارجية. ثم "كخاتمة" قد يصبح السيناريو الأسوأ هو رحيل المتحاربين الخارجيين عنه، وتركه لصراعه الأصلي الذي بدل أن يتقدم خطوة تراجع خطوات، وهذا الاحتمال يلوح مع استنفاذ قيمة البلد "المضيف" كساحة، ومع تصفير قيمته الاستراتيجية والمعنوية للمتحاربين. لا يطل الآن السيناريو الأسوأ، ولا بدائل أخرى تنهي الحرب. لقد قام التدخل الروسي على الضد، أي بالإعلاء من القيمة الاستراتيجية لسوريا والتهويل من شأن الانتصارات الروسية فيها، بينما اكتفت واشنطن ببخس التدخل والانتصار قيمتهما بوضعهما ضمن حدودهما الواقعية جغرافياً واقتصادياً ومعنوياً، أما ردم الفجوة بين القيمتين فيبقى قراراً أمريكياً. في حال تخلت عن سلبيتها، تبقى واشنطن الأقدر على تقرير قيمة الركام السوري، بما فيه بشار الأسد، وعلى إيجاد ممولين لدفع الثمن.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024