إيران:الجنازة والحداد

ساطع نور الدين

الخميس 2020/01/09
إنتهى الاشتباك الاخير بين أميركا وإيران، الى معادلة ملتبسة. جديده الوحيد أنه كان الاشتباك المباشر الاول من نوعه منذ زمن بعيد.الكفة تميل في الظاهر الى الاميركيين، لكن الايرانيين لن يرتدعوا بسهولة. فهم لم يقاتلوا هذه المرة (ولا في أي مرة سابقة) دفاعا عن أي من حلفائهم، بل دفاعا عن أنفسهم ، وفي محاولة لفك الحصار الاشد الذي تتعرض له جمهوريتهم منذ تأسيسها في العام 1979. اطلقوا الصواريخ على أرامكو، وهددوا الملاحة البحرية في مياه الخليج العربي والبحر الاحمر، وشنوا الهجمات على القواعد العسكرية الاميركية في العراق، ثم تجرأوا على السفارة الاميركية في بغداد، في واحد من أخطر الهجمات على الاميركيين، وأكثرها رمزية حسب الذاكرة الاميركية التي لا تزال تحفظ صورة الفرار المهين من السفارة في فيتنام.

الخلاصة كانت إغتيال مهندس تلك الحملة العسكرية والامنية قاسم سليماني، وزيادة في العقوبات الاميركية والعزلة الدولية على إيران.. والاكتشاف المروع بأن القدرة على الرد على الاميركية محدودة جدا، إما لضعف القدرة الصاروخية التي كانت تقدم بوصفها سلاحا إستراتيجيا قادرا على تغيير موازين القوى، وعلى محو دول عن وجه الارض، وعلى إشعال حرب عاملية ثالثة.. أو لإدراك متأخر بأن تغيير قواعد الاشتباك ليس سهلا، ولا يسمح على سبيل المثال بأكثر من خطوة إستعراضية، تستخدم فيها الصواريخ مثل المفرقعات النارية التي لا تؤذي، ولا تصيب حتى قاعدة "حرير" الجوية الاميركية المهمة التي لا تبعد عن الحدود الايرانية سوى 110 كيلومترات.

 ختمت تلك الضربة الصاروخية البائسة جنازة سليماني، لكنه لم تختم الحداد عليه، ولن تؤدي الى وقف لاطلاق النار. ما زالت إيران بحاجة الى المزيد من الإشتباكات المباشرة ، طالما أن شعبها يسقط ضحية الفقر والجوع، وطالما ان دولتها تقترب من خطر الافلاس، وإحتياطها النقدي الاجنبي يقارب الاحتياط اللبناني.. الصواريخ البعيدة المدى لم تعد قوة رادعة او حاسمة في ذلك الصراع. تعطيلها ممكن، وتفاديها متاح، وتشتيتها سهل، فضلا عن أن دقتها وفعاليتها وقوتها التدميرية ليست بالقدر الذي حكي عنه في السابق. وهو إستنتاج  جوهري بالغ الخطورة على إيران وشعبها الذي خرج بالملايين ليودع آخر عناصر قوته وموقعه ودوره الاقليمي.

صحيح ان إسطورة سليماني بنيت على أوهام بلد متواضع القوة العسكرية والاقتصادية، شاءت الصدف ان يتمكن من إختراق، وإدعاء السيطرة على أربع عواصم عربية، كانت قد حطمتها أزماتها الداخلية، لكن التجربة لا توحي بأن ساعة الحقيقة التي تقف أمامها إيران اليوم، للمرة الثانية منذ هزيمة حرب العراق في ثمانينات القرن الماضي، ستؤدي الى مراجعة جدية لسياسات مغامرة، إنتهازية، قلصت حضور ايران وإختزلت صورتها برجل أمن أدى أدواراً إنقلابية أو بالأحرى غير شعبية  في أربع دول عربية، أساءت الى العلاقات الإيرانية مع العالم العربي بأسره.

لم تُنسج الاوهام الايرانية من فراغ. كان ثمة حلفاء عرب ساهموا في تصوير إيران كدولة عظمى، بل وحتى في إقناع قادتها بأنهم يتزعمون محوراً عالمياً! هؤلاء اليوم في وضع حرج لا يحسدون عليه. هم مدعوون الآن أكثر من أي وقت مضى الى إثبات تحالفهم وجدوى الانفاق السخي عليهم. التلفزيون الايراني ينتظر على أحر من الجمر أخبارهم التي ترفع المعنويات، وتقلب المعادلات، وتغير الحسابات، وتخفف من وطأة اللكمة القوية التي تعرضت لها إيران، فردّت عليها  بصفعة خفيفة.. ما زال الصراع يستدعي المزيد منها، إذا لم تكن القيادة الايرانية قد قررت البحث عن بدائل للتعامل مع الولايات المتحدة، التي تتصرف هي الاخرى كمليشيا يصعب التنبؤ بسلوكها وتقديرها لقيمة الشرق الاوسط وبلدانه وشعوبه.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024