خصخصة السيادة: الروس في المطارات المصرية

شادي لويس

الأربعاء 2021/08/11

لا يتجلى وجود الدولة أو غيابها في مكان أكثر من الميناء، في سلطة الحكم على الحركة دخولاً وخروجاً، للبشر وللبضائع، للملموس وللمعنوي، في تعيين حدود الداخل والخارج ووضع الحد الفاصل بين الوطني والأجنبي، المسموح والممنوع.

تمثل المواني نقاطاً للسيادة، بوصلها بعضها ببعض تُرسم خطوطٌ لنطاقات من الهيمنة. تلك الخطوط في معناها الجغرافي هي الحدود، وبحسب تقييمها العاطفي هي الوطن، وبتعريفها المؤسسي هي مجال لعمل الدولة. لذا، ففي الميناء تتكثف قوانين السلطة الوطنية ومعانيها، مسألة الجنسية والهجرة، الانتماء كعلاقة رسمية، الأمن والتجارة، العزل وحركة رأس المال وقواعد الصحة العامة، وبين كل هذا وعبره، ترسم تراتبية لأنواع من البشر. فبمجرد أن تطأ أقدام المسافرين أرض الميناء، يوزعون على طوابير بحسب وثائق جنسياتهم، بحسب وزنها في موازين القوة. هناك جوازات سفر لعنات، وسحنات لعنات، وهناك جوازات تفتح ألوانها الأبواب المغلقة بابتسامه أو إيماءة مرحبة، هناك طوابير تنساب حركتها بلا عوائق، مراسم الهجرة بالنسبة لأصحابها تحصيل حاصل، وثمة طوابير أبطأ يخضع أصحابها وتواريخهم للتدقيق، أو يتعرض أسوأهم حظاً للاختفاء في مكاتب جانبية لبضع دقائق أو ساعات، وأحياناً أخرى لسنين.

وكأن الموانئ بأنواعها غرابيل كبيرة تفرز المارين بها، بحسب نظام كبير للتصنيف والامتيازات والوصم، نظام عابر للحدود ومتجاوز للوطني. وفي هذا تكمن المفارقة، ففي الميناء يتكثف حضور الدولة، وهناك أيضاً يمكن لها أن تتبدد لصالح منظومة فوق وطنية.

بعد انفجار طائرة روسية بمجرد إقلاعها من مطار شرم الشيخ، في العام 2015، فرضت موسكو قراراً بدا تأديبياً، بحظر الطيران بشكل كامل إلى مصر. كان للإجراء الروسي المبالغ فيه، تبعات مؤلمة على الاقتصاد المصري. فروسيا كانت السوق الأكبر المصدر للسياحة إلى مصر. وفي العام السابق للانفجار، بلغ عدد السياح الروس، حوالى الثلاثة ملايين وربع المليون سائح، أي ثلث حجم السياحة الواردة إلى مصر تقريباً، وربع مداخيلها إلي الخزانة العامة. كان لهذا التفاوت الشاسع في الموازين الاقتصادية لحركة السفر بين البلدين، أن يفرض علاقة إخضاع تكون فيها لموسكو اليد العليا. وبعد حوالى عامين، أسفرت المحاولات المتواصلة من الجانب المصري لرفع الحظر، عن إرسال موسكو فرقة أمنية للتفتيش على إجراءات الأمان والسلامة في المطارات المصرية. وأكدت تقارير البعثة الروسية وتوصياتها، على المزيد من علاقة الإخضاع بين الطرفين. فبالإضافة إلى اقتراح تعديلات على إجراءات الأمن داخل المطارات، وضع الروس شروطاً تتعلق بتأمين المنتجعات والمرافق السياحية كذلك.

أكثر من مرة، عادت الفرق الأمنية الروسية إلى المطارات المصرية، حتى قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتوقيع قرار باستئناف الرحلات الجوية إلى القاهرة في العام 2018، مع إبقاء الحظر على الطيران إلى المنتجعات السياحية على البحر الأحمر، وهي الوجهة الرئيسية للسياحة الروسية. وهذا ما عنى، عملياً، بقاء الأمر على ما هو عليه.

بدلت الكورونا من قواعد السفر بالكامل، أو بمعنى آخر، أكدت القائم بالفعل، لكن في سياقات جديدة. فالحكومة المصرية التي كانت أولوياتها في مواجهة الوباء، واضحة منذ البداية، وضعت الاقتصاد فوق الصحة العامة، ومداخيل السياحة فوق حياة المواطنين. فباستثناء فترة قصيرة العام الماضي، ظلت الموانئ مفتوحة أمام حركة السفر. إلا أن هذا لم يكن كافياً بالطبع، فمصر وُضعت في اللوائح البرتقالية والحمراء لمعظم الدول المصدرة للسياحة، وكذا الدول العربية المضيفة للعمالة المصرية. وفي وضعية مثل هذه، تكون فيها مصر مستقبلاً للسياحة ومصدراً للعمالة، فإن آليات اللوائح اللونية تعمل في اتجاه واحد دائماً، فالموانئ المصرية تظل مشرعة لكن قرارات الحركة تتم في مكان آخر.

مطلع الأسبوع، استقبل مطار الغردقة أول طائرة من موسكو، بعد حظر دام ست سنوات. وقبل استئناف حركة الطيران، كانت بعثة أمنية روسية قد وصلت إلى مدن القاهرة والغردقة وشرم الشيخ، للإشراف على إجراءات التأمين فيها، والتواجد بشكل دائم في مطاراتها. وغير أن الرحلات الروسية ستكرس لها بوابة خاصة، فإن الإشراف الروسي سيمتد إلى عملية نقل الركاب إلى المنتجعات السياحية وعوامل التأمين في المرافق السياحية أيضاً. ولا يقتصر الأمر على الأمن. فموسكو فرضت على السلطات في مصر اشتراطات صحية إضافية تتعلق بالكورونا، ويقوم كذلك المبعوثون الروس بمراقبة تنفيذها ومدى الالتزام بها.

هكذا، تتخلى السلطات المصرية ضمناً، عن قدر من سيادتها على موانئها وأراضيها، وعلى إجراءاتها الأمنية وقواعدها الصحية، حيث تخضع أجهزتها لاشتراطات ورقابة حكومة دولة أخرى. لكن هذه إشكالية تظل صورية من وجهة نظر النظام. فالأمر الواقع هو أن الدولة في مصر تخصخص قطاعات ومساحات من سيادتها، لصالح الأنشطة الاقتصادية والأطراف المتحكمة بها، سواء رأس المال أو دول أخرى، خصخصة من نوع خاص، لا بمعناها الاقتصادي فقط، بل بمعناها السيادي أيضاً.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024