وباء ثقافي أم طبقي؟

شادي لويس

الثلاثاء 2020/05/05
العادات الغذائية للصينيين كانت الهدف الأول للهجوم مع بداية أزمة كورونا، الحيوانات البرية والأسواق الرطبة، كما ذهبت التقارير الأولى، وتم تداول تلك التكهنات بخصوص كيفية تطور الفيروس أو ظهوره وانتقاله من الحيوانات إلى البشر في خلال أيام قليلة من الكشف عنه، مصحوبة ببعض الافتراضات العلمية (غير المؤكدة بعد). وسريعاً نالت القصة صفة الحقائق، وأضحى التشكك فيها أو مسألتها أمراً غير مطروح بالمرة. الأطعمة "الإيكزوتيكية" كانت الصيغة التي وصفت بها وسائل الإعلام الغربية، أصل المشكلة. "الإيكزوتيكي" بوصفه غير الغربي، أو الغريب والعجيب بالعين الغربية، وبالاعتماد على الغربي كمعيار وحيد ومطلق للخطأ والصواب.


حين ضرب الوباء إيطاليا أولاً، بأعداد كبيرة من الإصابات ومعدلات وفيات عالية ومتسارعة، وظهر واضحاً أن النظام الصحي قد يواجه انهياراً وشيكاً، سلكت وسائل الإعلام مساراً مشابهاً، وبحثت عن تفسير ثقافي للأمر، ونسبته ببساطة إلى العادات الاجتماعية الحميمة (المتوسطية)، العلاقات العائلية القوية والتساكن بين أجيال مختلفة من العائلة الواحدة، بالإضافة إلي تنميطات رائجة عن التراخي الإيطالي وعدم الالتزام، تلك المدعومة أيضا بتاريخ طويل من العنصرية واجهته الهجرة الإيطالية الواسعة في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين إلى الأميركيتين والشمال الأوروبي، مع تنميطات السينما الأميركية عن الجاليات الإيطالية، المافيا والحفلات العائلية المزدحمة بضوضائها والفساد والجريمة. هنا أيضاً تتكشف تراتبية ثقافية داخل الثقافة الغربية. فالمركزية الأنجلوسكسونية، والفرانكوفونية أو ربما الجرمانية في أحيان أخرى، تضع الأوروبيين الجنوبيين في تصنيف ثقافي فرعي ذي مرتبة أدنى، وإن كانوا ما زالوا أعلى من الأوروبي الشرقي والسلافي. وكما هو متوقع، يظهر أن الثقافة الأنجلوسكسونية أو الأوروبية الشمالية ليست فقط الأرقى ثقافياً، بل الأكثر صحية أيضاً.

ومع مرور الوقت، يتضح أن ما نعرفه عن الفيروس أقل بكثير مما ظننا في البداية، لا عن أصله فقط بل وحتى عن سلوكه الآن. دراسات إيطالية تذهب إلى أن انتقال الفيروس للبشر ربما كان سابقاً على الإعلان عن اكتشافه في الصين بشهور، بل بعض التكهنات يذهب إلى القول بأنها ربما تكون سنوات. ووسط تصعيد انتخابي أميركي، يتنافس فيه المرشحون للرئاسة على إظهار القسوة في "معاقبة" الصين، يصر ترامب ووزير دفاعه على إن هناك أدلة "ضخمة" على تسرب الفيروس من مختبر صيني. وفيما يهبط منحنى الإصابات والوفيات الإيطالية، يرتفع في بقية أوروبا، لتصبح بلجيكا هي الأعلى في نسب الوفيات بالنسبة إلى عدد السكان في القارة، وبعدها إسبانيا، ويقترب عدد الوفيات في بريطانيا ونسبها، من مثيلتها في إيطاليا، في وقت قياسي وبوتيرة أعلى، ومن المتوقع أن تتجاوزها، في خلال أسبوع أو إثنين على الأكثر، ومن المحتمل أن تلحق بها فرنسا. لا يعني هذا نفي تأثير العوامل الثقافية، في مسائل الصحة العامة والوقاية، لكن وفي الوقت نفسه، فإن الثقافة، يمكن أن تحل بسهولة محل العرق أو الإثنية، لتقوم بكافة وظائفه التنميطية في أي خطاب تمييزي.

الأسبوع الماضي، أكدت الدراسة الأكبر المعتمدة على التحليل الإحصائي لمعدلات الوفيات في بريطانيا، ما نعرفه بالفعل: نسب وفيات الكورونا بين الأقليات تفوق مرتين ونصف معدلاتها بين السكان البيض، وتقفز النسبة أكثر من ثلاث مرات ونصف في حالة الأقلية السوداء.

ولطالما وُصمت العادات الثقافية لجاليات المهاجرين والأقليات، واعتُبرت مصدراً لتفشي الأمراض. لكن الدراسة نفسها تشير إلى أن العامل الأكثر حسماً في هذا الاختلال هو الوظائف، حيث تعمل نسب أعلى من الأقليات في الأعمال الأساسية، وظائف خطوط المواجهة الأولى كما يطلق عليها، وبالأخص في الصحة، وبالتالي ففرص تعرضهم للعدوى أكبر. الإحصاءات في الولايات الأميركية، تشبه تلك النتائج أيضاً، وتؤكدها بوصفها ظاهرة عابرة للحدود. دراسة بريطانية أخرى تؤكد وبوضوح أن معدلات الوفيات في المناطق الأكثر فقراً في إنجلترا وويلز، هي ضعف معدلاتها في المناطق ذات المستوى الاقتصادي الأعلى. تلعب نوعية الوظائف دوراً كبيراً هنا بالتأكيد، لكن اختلال تمويل الخدمات الصحية بين منطقة وأخرى يلعب دوراً لا يقل أهمية.

يختزل سؤال "الثقافي أم الطبقي"، الطبيعة المعقدة للعالم الاجتماعي، فأين يتوقف الثقافي، وأين يبدأ الطبقي حقاً؟ وكيف يمكن الفصل بينهما، أليس كل طبقي هو ثقافي أيضاً؟ وربما كذلك العكس؟ إلا أن ما تتيحه البيانات المتوافرة هو إن نوعيات الوظائف، تقسيم العمل في المجتمع، توافر احتياطات الأمان في أماكن العمل، وبالأخص للعاملين في القطاع الطبي والرعاية، أوليات المخصصات الحكومية، تمويل الخدمات الصحية.. تلك كلها هي العوامل الحاسمة في معدلات العدوى والوفاة. ويبقى "الثقافي"، المصطلح الفضفاض الذي قد يعني كل شيء، ولا شيء في الوقت ذاته، عاملاً مؤثراً بلا شك، وكذا مناسباً لحجب الأسئلة الأهم في أحيان كثيرة. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024