مأساة إبن

أحمد عمر

السبت 2019/05/04
ليس ما يشجيه كل هذا الخسران..

ليس أصغر الخسارات تحوّل بيته إلى وشم في أخبار التلفزيون، وليس أكبرها دمار مدينته، التي قال فيها المعري:

واخلع إذا حاذيتها ورعاً / كفعل موسى كليم الله في القدس

كأنما حجارتها من الجبنة البيضاء، يمكن أن تؤكل بعد نقعها بالماء.

ليس ما يجتوي فؤاده الذكريات التي تتضور شوقا وهي كثيرة، وصاخبة، فيها شوارع وأزقة، وعمارات، ومآذن، وأمكنة، وناس، وأصحاب، وأصوات، وبنات، وجيران، وروائح، وصابون، وزعتر، وكبب، وحلويات، وحمامات، وكتب، وأطعمة..

ليس ما يؤسيه الرحلة الطويلة التي تشبه الأوديسة، قطعها من حلب عبر طرطوس وكسب وتركيا، ونجا فيها من محاولات قتل ونصب، وعمل شهراً في معمل شوكولا، الشوكولا فيه لا تؤكل، الطين المحلّى بالسكر أطيب منها، والأجر في المعمل زهيد، أعمال شاقة على قدم وساق، حتى في أيام العطل، ولا المحاولات المحبطة التي حاول فيها اجتياز الحدود الزلقة إلى أوربا برّاً مثل سمكة سلمون عنيدة، إلى أن وُفّق في المحاولة الرابعة عشرة.

ليس ما يغمّه توقيفه أياماً في اليونان، ولا إذلاله بسبب عنصره، ولا بصمته في بلغاريا وكأنها بصمة على تسليم الأندلس، أو إقرار بخيانة.

ليس ما يحزنه أنه يعمل في ألمانيا مثل رجل آلي كما في فيلم "الأزمنة الحديثة"، في فرز البريد الألماني وطروده وتصنيفه على رفوف حسب المناطق بأرقامها، ثماني ساعات يومياً، حرقاً للعمر، حتى إنه يأكل رماد الأيام، وهذا ليس عمله، لقد كان يعمل في إحدى محلات والده، يبيع ويشتري، ويربح، ويتودد الناس، وهو سيد العمل، ويسعى للبحث عن عروس. الألمان يقدرون أتعاب العمل، ويحفظون حقوق العمال، وهو يعمل مضطراً إلى حين، فليس هذا ما يغمّه، بل إنه يعمل لكي ينسى.

ليس ما يلوعه أنه لمَّ شمل الأسرة بعد ثلاث سنوات من العمل في الأوراق والترجمة وادّخار المال كأنه بسمارك سوري صغير، وليس سوى بنك وحيد في المانيا يقبل الإيداع هو بنك مدينة آخن، فهذا أمر يسرّي عنه، حتى استطاع إحضار ابيه وأمه من تركيا، لكن أي شمل هذا؟ فقد كان يعيش في بيت كبير، من ثلاثة طوابق له حديقة، يجتمع فيها الآباء والأجداد والأبناء والأحفاد، في الأعياد والمناسبات، فيذبح أبوه كبشاً أقرن أملح، ويأكل منه الأهل والجيران والأصحاب.

ليس ما يحزنه أن أباه قد صار عنده في بيته الصغير، فهذا ما يسعده، وإن كان لا يزيد عن غرفتين،بيت يشبه علبة كبريت، صندوق وغلافه، الحيطان خشبية يحرص فيها عود الثقاب البشري على المشي على أطراف أصابعه ليلاً، كاللص حتى لا يشتعل من الضيق، ويتكلم همساً حتى لأن الجدران لها ألسن.

 ليس ما يدمع عينيه ويدمي قلبه أن أباه شبه محبوس، أسير في غرفته من غير قيود أو حديد مع أمه صامتين، وقد تفرق أولاده وبناته في المانيا، البنتان في عاصمتي المانيا الغربية والشرقية، والأبناء الثلاثة في ثلاث بلدات متجاورة تبعد عن بعضها كبعد حي السكري عن صلاح الدين وحي الأنصاري، وهو أفضل مصيراً من آباء تفرقت أبناؤهم في قارات الأرض، فوق خط الاستواء الذي انحنى ظهره تحت ثقل الفراق.

ليس في هذا ما يوحشه بل فيه الكثير من النعمة التي يحمد ربه عليها بكرة وأصيلاً، فلا ضحايا من الأسرة، ولا معتقلين، ولا مقتولين تحت التعذيب، الخسائر المالية كبيرة، لا تقدر بثمن، بيت كبير ومحلات فيها تحف شرقية، وأنتيكات وآثار وذكريات ووثائق، والحي فيه مساجد أقدم من كاتدرائية نوتردام بثلاثة قرون، لكنه المال، إنَّ المالَ غَـادٍ ورائِـحٌ.

ليس ما يجعل فؤاده ينوح مثل حمامة على غصنها المياد، سقوط عروش، كان أبوه يحكم مثل ملك حقيقي، من غير تاج ولا إيوان، لا يقترب كثيراً من رعيته فيحترق، ولا يبتعد كثيراً فيفترق، يحرص على تربية أولاده تربية صالحة ويسعى لهم في حياة سعيدة.

 ليس ما يهمه أن أباه كان من أبرِّ الأبناء بين إخوته بأبيه، بل إن هذا ما يفخر به، وكان الجد قد خرف وشاخ، فنسي، وضاع عقله، فهو لا ينام ولا يستيقظ، ويخلط، ويهذي، وأبوه يحسن صحابته، فيقول له أبناؤه وقد طال السهر به: اذهب إلى فراشك ونحن نرعى جدّنا.

فيقول: ناموا أنتم.. هذا أبي وأنا أحق منكم برعايته.

فلم يكن مثل أعمامه الذين يهملون الجدّ في دورهم في الرعاية الأسبوعية.

ليس ما يشجنه ذكريات المضافة، يجتمع فيها الأصدقاء والجيران، فيدور الأبناء الثلاثة بالشاي والقهوة والتمر شتاء، والعرق سوس والتمر هندي والشاي والقهوة صيفاً.

ليس ما يؤلمه أن أباه شديد الوحدة، لا يعرف مكاناً يذهب إليه في المانيا، سوى الحديقة الخالية الكبيرة، التي تغرد فيها طيور بلغات الله، وفيها أشجار كثيرة طويلة وعملاقة تبدو كأنها صناعية.

ليس هذا ما يشجيه، ويبكيه، ويبكته، ليس ما يشجيه أنَّ والده يبدو مثل ملك مخلوع فقد عرشه ولا يستطيع أن يبكي، يقضي وقته بزيارة ابنيه ولا يفعل شيئاً سوى النظر إلى الأفق البعيد.

ليس هذا ما يشجيه، ما يؤلمه أن أباه تغير كثيراً، وهو ما يزال يستيقظ باكراً، ومع غزو السنين يقل النوم، فيعد له فطوره بنفسه كأنما يتودد إلى ابنه، فيحس بالخجل من أبيه الذي لم يدخل المطبخ في حياته.

ما يفجعه أنه يشعر بالألم عندما يرى أباه يسأله أن يشتري له تذكرة سفر، فهو يجهل كيف يستعمل الآلة المعقدة وقد أخطأ مرات، فيسمع في طبقات صوته ذلك الحزن الكسير الذي يشبه التوسل.

ما يجرحه أن أباه يلغو ويستعطي، والملك لم يكن يحب اللغو، كأن يسأله عما إذا كان يسأاله عن عد ملاعق السكر في الشاي، فلم يكن أبوه قط يسأل أبناءه عن هذه الأشياء الصغيرة التافهة.

ما يشجيه أن أباه أمسى يثني عليه، ويقرّظه، ويشيد بنجاحه وأحياناً يذّكره بفضله عليهم، التعليم والتربية، ويسكت إذا ما تحدث توقيراً للابن كما كان ابنه يفعل تماماً في الوطن، فيحس أن أباه يرشوه كما يرشو موظفاً، أو أن يمدحه فيقول أمام أمه: عبد السلام أحسن أولادي، وكأنه يخشى أن يعقّه أو أن يطرده من البيت.

تقول الأمثال موصية الأب: إن كبر أبنك "خاويه"، وتقول دراسات أن الابن يتحول إلى أب جديد لأبيه عندما يكبر. لكن ما جرى لأبيه أن المنفى جعل أبوه يصير مسكينا ويتيما وأسيرا.

أسوأ الأخبار التي سمعها عن السجون هي قصص آباء حبسوا مع أبنائهم. همّ مرات أن يقتحم الحصون العالية، وأن يقول لأبيه وهو يقبّل يده: أبي العزيز، على رسلك، حنانيك، فضلك علينا لا ينسى، لن أنسى ما حييت حبك لنا وعطفك علينا ورعايتك لنا، وإذا كنت قد خسرت المُلك فأنت لا تزال الأب، فلا تخش العقوق، فأنا ابنك وبعض منك، وصنيعة يدك، فلا تذلنَّ بنفسك بالتودد إلى ابنك، ارفع جناحك، فأنا لا أستطيع أن أتحمل جلاميد الحجارة وهي تتساقط من المئذنة فوق رأسي، أنت ما تزال جلالة الملك.

لكنه يخاف من أن يحطم كبرياءه.

هذا ما يشجيه. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024