لبنان في سقوطه الحر..أي مستقبل؟

مروان بشارة

الإثنين 2021/07/19
لبنان، الذي كان يحسده العالم العربي، أصبح في أزمة لا نهاية لها في الأفق. نظامه السياسي في طريق مسدود، فيما اقتصاده ينهار مع مرور كل يوم، مما يجبر قادته على المطالبة بالمساعدات الخارجية الطارئة، بما في ذلك الغذاء لجيشه الجائع، لإبقاء البلد عائماً.
لكن اللبنانيين، وهم شعب ذكي، معروفون بصحن الحمص أكثر من كونهم معروفين بالتواضع، كانوا حتى وقت قريب في حالة إنكار لحجم الأزمة المتفاقمة.
إنهم مجموعة مجتهدون ودهاة ورياديون تغلبوا على أزمتين رئيسيتين في العقود الأخيرة وهم واثقون من عودتهم القادمة.
لكن هذا قد يثبت أن حظهم في المرة الثالثة سيء.
اللبنانيون "اللطفاء" المعروفون بأنهم يشترون أشياء لا يحتاجونها بمال لا يملكونه لكي يثيروا إعجاب أشخاص لا يعرفونهم، أصبحوا فقراء جداً ومعزولين لدرجة أن هناك القليل من السلع التي يمكن شراؤها، وعدداً أقل من الأشخاص الذين يمكن إثارة إعجابهم، وقليل من العملات الصعبة للاقتراض.
إنهم يعيشون الآن "مفارقة الشاورما": الساندويش الوطني الذي كان ثمنه 5000 ليرة لبنانية أو دولارين قبل عامين، يبلغ سعره اليوم 20 ألف ليرة أو أقل من دولار واحد.
لكن الروح اللبنانية ما زالت حية، جنباً إلى جنب مع الفكاهة اللبنانية المعروفة التي تستنكر الذات، والتي تهيمن بشكل متزايد على وسائل التواصل الاجتماعي في لبنان.
تقول إحدى نكاتهم: احرص على تلاوة صلاتك، وإلا ستمر جهنم مرتين، مرة في لبنان ومرة في الآخرة. وهناك نكتة آخر تسلط الضوء على الخيارات الثلاثة للبنانيين خلال الأزمة: الذهاب إلى مستشفى الحريري، أو المغادرة عبر مطار الحريري، أو اللحاق بركب (رئيس الوزراء الراحل) رفيق الحريري شخصياً.
في الواقع، لبنان هو مفارقة حية تتنفس. إنه أرض الأضداد. الطائفية والعلمانية والثروة الهائلة والفقر المدقع لليبراليين المتطرفين والمحافظين المتطرفين. كما أنه يشتهر بمفكريه اللامعين وفنانيه الأكثر غباءً.
تناقضات البلد منسوجة في النسيج الوطني. على الرغم من أن لبنان طائفي إلى حد كبير، إلا أن خصائص لبنان المتناقضة تتجاوز الانتماءات الدينية.
من المؤلم أن نشاهد كيف تحول هؤلاء الأشخاص -المعروفين بأنهم الأكثر عملية وإنتاجية في المنطقة- إلى هذا الحد غير العملي وغير المثمر تجاه بلدهم. لكن من المؤكد أن "المفارقة اللبنانية" يمكن أن تكون عبئاً ولكنها قد تكون مصدر قوة أيضاً.
قد يكون تعددياً وملهماً للتنوع والمنافسة. وربما يكون استقطابياً ويزرع الكراهية والاقتتال الداخلي كما هو اليوم ويشل نظامه السياسي ويدمر الاقتصاد.
تاريخياً، عندما شعر اللبنانيون ب"اللبنانيين أولاً" وكان ولاؤهم في المقام الأول للبنان، وليس لهذه الطائفة أو تلك (سواء كانت سنية أو شيعية أو مارونية أو درزية، إلخ) ، أصبح تنوعهم رصيداً. لكن عندما وضعوا الطائفة فوق الدولة، تحولت تعدديتهم إلى عداء، والمنافسة إلى صراع.
في العام 1975، جرّ الزعماء الطائفيون اللبنانيين إلى حرب أهلية مدمرة، مما أدى إلى تأليب الجار ضد جاره، من أجل تحقيق مصالحهم الضيقة. وبعد فترة وجيزة من انتهاء الحرب عام 1989، شرعوا في تقسيم لبنان في ما بينهم من خلال وضع المصالح الطائفية فوق المصالح الوطنية، ومنذ ذلك الحين بددوا إمكاناته في الازدهار بنهب ثروته.
لسوء الحظ، لا بد من القول إن الزعماء الطائفيين ما كانوا لينجحوا لو لم يتمتعوا بتبعية كبيرة داخل "جماعاتهم"، وإن كان ذلك من خلال التلاعب والانقسام، مما يجعل الناس يشعرون بالأمان كأعضاء في طائفة وليس كمواطنين في الجمهورية.
من خلال الزجّ بأنفسهم بشكل مباشر بين الدولة ومواطنيها، بين الحكومة والمحكومين، جعل القادة الطائفيون أنفسهم لا غنى عنهم لإدارة شؤون الدولة. لكن المحسوبية والفساد وعدم الكفاءة المطلقة حطمت البلاد.
أصبح هذا واضحاً مع الاضطرابات الإقليمية والوباء العالمي (كورونا) الذي أضرّ بلبنان، إلى جانب انفجار مدمر هزّ العاصمة الصيف الماضي.
بعد أن عانت لعقود من الحروب والاحتلال الإسرائيليين، كان على الدولة الصغيرة على مدى السنوات العشر الماضية، أن تتحمل أيضاً وطأة الحرب في سوريا. انضم حزب الله اللبناني إلى الصراع بكل تفانٍ إلى جانب نظام الأسد، وقد جاء ذلك بتكلفة إنسانية مروعة، حيث عبر حوالي 1.5 مليون لاجئ سوري إلى لبنان.
في هذه العملية، فقدت بيروت الكثير من هيبتها وجاذبيتها كمركز اقتصادي وثقافي وسياحي وإعلامي على مدى العقد الماضي، متخلفة عن مدن رئيسية أخرى مثل دبي والدوحة وعمان.
مع موارد أقل وتحويلات أقل ودعم إقليمي أقل تحت تصرفهم، تحولت النخب الريادية إلى الداخل، وبدهاء لا مثيل له، إلتهمت أصول الدولة والمجتمع، بما في ذلك مدخرات عدد لا يحصى من العائلات اللبنانية.
وكلما ازداد الوضع سوءاً، تمسكت هذه النخب الفاسدة بسلطتها بشراسة. لقد رفضت التنازل عنها، رغم تسعة أشهر من الجمود السياسي والاحتجاجات والانهيار الاقتصادي.
اليوم، تتدهور البلاد إلى أسفل بفضل زعيمين منهكين وساخرين على رأس الدولة وبرلمانها، إلى جانب رجل غير كفء داخل وخارج رئاسة الوزراء ووسيط سلطة من وراء الكواليس يختبئ في ملجئه - ولاءات الاخير تقع خارج البلاد.
أصبحت الدينامية السياسية، المعقدة للغاية بحيث يتعذر على الغرباء حلها، راسخة بعمق، على الرغم من المطالبة الشعبية بإنهاء النظام الطائفي الذي يناصرونه.
لكن المتفائلين، وهم واهمون في بعض الأحيان، لا يستسلمون.
يعتقد البعض أن حكومة التكنوقراط ستخرج الدولة من المأزق الحالي وتدير شؤونها بشكل أفضل. لكن التكنوقراط لا يستطيعون حل المشاكل الاقتصادية في غياب الإرادة السياسية من جانب الأحزاب والقادة السياسيين الطائفيين في البلاد.
ويأمل آخرون أن تسهم المساعدات والتدخل الدوليان المباشران البلاد في التغلب على أزمتها الاقتصادية وتوفير الوقت والإشراف اللازمين للإصلاح السياسي. إنهم لا يرون كيف أن الدول الأكثر فقراً تتنافس أيضاً للحصول على المساعدة الدولية نفسها، والتي، بالمناسبة، تتقلص كل عام.
جمع المؤتمر الدولي الأخير للبنان (مؤتمر سيدر) أقل من 300 مليون دولار، وهو ما يمثل قطرة واحدة مقارنة بالدين العام للبلاد البالغ 93 مليار دولار، والذي يعتبر الأعلى في العالم عند وضعه مقابل الناتج المحلي الإجمالي. ولن يكون مؤتمر المانحين الثاني الذي سيعقد الشهر المقبل واعداً ولا أقل إصراراً على الإصلاح الجذري والانتخابات التي تتم تحت إشراف دولي، والتي يستمر حكام البلاد الفعليون في مقاومتها.
ثم هناك من يفترض أن المغتربين اللبنانيين، الذين هم أكثر عدداً وازدهاراً من المواطنين المقيمين في البلاد، يمكن أن يلعبوا في نهاية المطاف دوراً رئيسياً في إنعاش اقتصاد البلد وتحسين إدارته.
لكن هذا مفرط في التفاؤل بالنسبة لبلد يعاني من السقوط الحر. إن إغراء المغتربين بالاستثمار، ناهيك عن العودة إلى الوراء، سيتطلب أكثر من مجرد تعهدات بالإصلاح.
ثم هناك المتشائمون، الغارقون في الظلام كما قد يكونون في بعض الأحيان.
يعتقد البعض أن الزعماء الطائفيين يسمحون للوضع بالتدهور أكثر من أجل جعل أتباعهم يتّحدون وراءهم قبل أن يفقدوا هيبتهم وتأثيرهم.
ويعتقد هؤلاء أن العقلية التي جرّت البلاد إلى حرب أهلية عام 1975 لا تزال تزدهر في ظل النظام الطائفي الحالي في البلاد.
في الواقع، يخشى المشككون أنه مع انهيار الاقتصاد وخروج الوضع عن نطاق السيطرة، قد يتبع ذلك صراع عنيف.
وأخيراً وليس آخراً، هناك من نسميهم "المتفائلين-المتشائمين"، الذين يأملون في صفقة كبيرة بين القوى الإقليمية والغربية بعد تسوية الصفقة النووية الإيرانية. اتفاق يشمل تسوية سياسية في لبنان، مما يمهد الطريق لمزيد من المصالح والاستثمارات الإقليمية  لا سيما السعودية والخليجية.
في حين أن هذه الصفقة البعيدة قد تهدئ الوضع على المدى القصير، إلا أنها لن تؤدي إلا إلى تأجيل الانهيار الداخلي، بينما تعزز كل ما هو خطأ تاريخي في لبنان.
لهذا السبب، لا يمكن أن يكون الطريق إلى الأمام هو طريق العودة.
في الحقيقة  لا يوجد بديل قابل للتطبيق لحل لبناني جذري لهزيمة لبنان المنهِكة.
وهذا يستلزم قيام الناس في الشوارع ونشطاء المجتمع المدني بتحويل قوتهم الشعبية والمدنية إلى سلطة سياسية من خلال تنظيم أحزاب سياسية غير طائفية، والمساعدة في التغيير الديمقراطي للنظام الطائفي الدنيء الذي هو في أصل ويلات البلاد، لصالح جمهورية لبنانية حقيقية.
قد يكون هذا صعباً وقد يستغرق وقتاً طويلاً لتحقيقه، لكن لا توجد طرق مختصرة ولا حلول سحرية سهلة لبناء ديمقراطية فاعلة.
ومع ذلك، حتى بعد انطلاق الديمقراطية والإصلاح، لا توجد ضمانات بأن لبنان سيتخلى عن طائفيته أو يزدهر، أو أن بيروت ستستعيد جاذبيتها وروحانيتها في ظل الأزمات الإقليمية المتفاقمة والمنافسة العالمية القاسية.
ولكن مرة أخرى، الأزمات هي فرص عظيمة للتغيير الحقيقي. وتمثل هذه الأزمة اللبنانية المأساوية فرصة نادرة للديمقراطيين لإغراء عدد لا يحصى من اللبنانيين الغاضبين والساخطين لتغيير المسار والوقوف معاً من أجل البلد الذي يحبونه.
قد لا أكون متفائلاً بشكل رهيب، لكني دائماً متفائل بشأن اللبنانيين ولبنان.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024