كونتاك: عطر امرأة

أحمد عمر

السبت 2019/06/01
وقع بالأمس "كونتاك" في صفحات التواصل، يعني ماس كهربائي؛ وهو تعبير غزلي معقم، وطاهر مطهّر، من المقاومة والممانعة، اخترعه إعلام النظام للغارات الإسرائيلية اللذيذة، فضرب الحبيب زبيب كهربائي. امتلأت الصفحات بشتائم "لبهيرة"، التي عادت، وحمُلت أوزاراً من زينة القوم، ولم يحمل معها الوزر من منتجي المسلسل سواها، لأنها أشهر الممثلين في المسلسل، ونسي القوم تعزيتها بمي سكاف، التي اعتبرت تعزيةً شجاعة في أرض النظام، ونسي الناس لها بطولة أخرى هي التوقيع على بيان الحليب، وهو أقصى ما يمكن أن تجترحه البطولة السورية في أرض النظام، أرض الشرّ المطلق والمسلسلات العظيمة.

"فضة" عاشقة غجرية أدت أمل عرفه شخصيتها في مسلسل سوري، وغنّت لحبيبها محسن، وصارت نجمة معروفة، يهتدي بها الشعب في ظلمات البر والبحر. المهم إنه بعد ثماني سنوات عاد كونتاك إلى حكاية استديوهات قطر وإن لم يذكر اسم قطر، فقد تطورت المعارضة، وهم بالملايين في الخيام، وأسست - وهي لا تجد الطعام - كل هذه الخبرات في التمثيل، عادت إلى قصص "الفبركة"، فسوريا الأسد مدينة فاضلة، وكل هذا الخراب والحرق والضحايا تمثيل واختلاق. إنّ هذا لشي عجاب. وكان فيلم "الخوذ البيض" الوثائقي قد نال الأوسكار، وهذا ليس مدحاً لأوسكار، لكن بهيرة ترى بعينيها الجميلتين، الموت الكيماوي تمثيلاً. "فيه أمل" كان اسم برنامج لها، وأمل لقب للرئيس ذي الطول، الذي لا يزول ولا يحول.

عادت حكاية الكاوبوي الأبيض والهنود الحمر بنسخة سورية. فالهندي هو الشرير في الفيلم الأمريكي، يخطف النساء الشقراوات، ويهاجم القوافل، ويصيح صيحات بنات آوى، متوحش، لا يعرف سوى الحرب مثلهم مثل الخوذ البيض.

" كنا عايشين"، وكان الممثلون السوريون، هم إحدى طبقات المجتمع السوري المترفة، مثل طبقة الكاشتريا الهندية، يؤدون أحسن الأدوار، الزير سالم، والشيخ جنزير قدس الله سره، وصلاح الدين الأيوبي، وأبو عصام بطل "ملحمة" باب الحارة، وعبد الرحمن الداخل، الممثل ينطق أحسن النطق، ويلفظ أحسن الكلام، وينصر الحق، و"يعبط" من الحور العين في الدنيا ما لا يعبطه الناس إلا في الجنة، إذاً هو يستحق كل هذه البطولة.

رأينا أمس سخطاً على بهيرة لم نره يلحق بدريد لحام صاحب صيحة "بدنا شوية كرامة"، الذي مثّل دور غوار وأضحكنا وأحببناه لأنه الوحيد الذي ينتقد المخابرات التي أذلّت السوريين. مرةً، شاهد كاتب السطور مقابلة مع نجمٍ سوري، وقد اصطلح لقب النجم على الممثل الذي كان أول ظهوره "مشخصاتياً"، وهو وصف فيه من الحط والازدراء والهجاء الكثير، لأنه يتكسب بالكذب، كان النجم السوري يحسد النجم الهندي، الذي تُشادُ له المعابد، ويتحول إلى ملياردير من فيلم واحد، وتحلم الجميلات بلمسة من لمساته، ويغشى عليهن من رؤيته، وهو ما لم يحدث ليوسف عليه السلام الذي أوتي شطر الحسن. السخط الذي انتشر في وسائل التواصل يقول إن الدراما التلفزيونية مؤثرة، وقد مثلت بهيرة دور أم تندب ولدها في حرب كيماوية ملفقة، الجيش السوري من إحدى أهم "الجهات المختصة"،  ثيابهم بيضاء، عاشقون، يكتبون في الجبهة رسائل غرام لحبيباتهم، لا ينتعلون الشحاطات كما نسخر نحن منهم وقد أدينا الخدمة العسكرية في بيوت الضباط، وشُتمنا شتماً مهنياً، وكنا نسميها خدمة العلم، وصارت صورة الرئيس على العلم بدلاً من النجوم، الجهات المختصة ملائكة يأكلون الطعام في المواعيد، يسهرون على راحة الوطن، يدافعون عن الحدود عند الأوامر، صحيح أن إسرائيل تقوم بعمل ماسات كهربائية في الأستوديو، لإفساد صناعتنا الثقيلة وهي الدراما، وليست القنبلة النووية، ولا نرد، وما ذلك إلا لأنَّ جيشنا حليم، يلجأ إلى القانون الدولي، فيسطر شكاوى إلى الأمم المتحدة، أو أنه يلتزم بأوامر رؤسائه، فالأوامر هي الصبر، أو لأننا لن نجرُّ إلى معركة في الزمان والمكان غير المناسبين، سنختار نحن زمان الماس الكهربائي، ذات يوم.

وكان لدينا سلاح كيماوي، من أجل التوازن الاستراتيجي مع العدو، وقد ضحينا به ليس للحفاظ على كرسي الرئيس، وإنما لأنه سلاح محرم فقهياً، أو لأنه سيرد العدوان الأمريكي، وكان أوباما أرسل أساطيله وهدد بالقصف؛ فإما السلاح الكيماوي وإما الكرسي.

وقد أحصت الأمم المتحدة ما يربو عن مئة اعتداء كيماوي، مؤكد أنه ليست كلها للمعارضة، فلا يعقل أن تقع كل هذ الأسلحة غنائم في يد المعارضة، ولا يعقل أن تكون الأسلحة الكيماوية بهذا الرخص والشيوع، ثم لا يعقل أن تقصف المعارضة نفسها وشعبها حتى تستدر عطف العالم، والعطف لم يقع، ولم يجدِ، فكلما هددت الدول الغربية النظام بلعته في اليوم التالي. بهيرة تزعم في مسلسل كونتاك، والكهرباء في سورية شحيحة، أنها فبركة، مجرد بودرة ورغوة صابون، وكان يمكن أن نضحك كما ضحكنا يوم زعمت الممثلة المصرية إلهام شاهين، أن القنبلة الكيماوية عاصفة غبارية، فهي مصرية، ومكلومة، فقد طعنتها بعض شخصيات الثورة بأعز ما تفخر به المرأة في الشرق والغرب وهو الشرف، بسبب مشاهدها "الساخنة" في أفلامها، فلم تجد سبيلاً للدفاع عن شرفها سوى الوقوف مع النظام الذي كان يصون أفلامها.. وشرفها.

المهم أيها السادة الناجون من الكيماوي والبراميل، أنّ النظام أراد سورية بوجهين، صورة رائعة في التلفزيون، الصورة الرائعة: شعب طيب، غير طائفي، لا يسأل عن الطوائف أبداً، مثل وادي المسك في الحلقة الأولى، الناس تصطاف على البحر في الصيف، وأعضاء البرلمان يجتمعون ويقررون نيابة عن الشعب الذي انتخبهم في انتخابات ديمقراطية، والرئيس في كل انتخاب يدخل الغرفة السرية " المحرّمة" وينتخب، هو الوحيد الذي يجرؤ على دخولها، و بهيرة  تجهل هذا، لكنها تدرك أن المعارضة لها قدرات خيالية لم تحظ بها هوليود بإمكاناتها على تمثيل المعركة الكيماوية، وقد تعبنا ونحن نقول ونعجب من تفريق الغرب بين القتلين؛ الكيماوي والبراميل مثلاً، والبراميل أسوأ، فهي تدمر البنية البشرية والبنية الحجرية، ويحافظ السلاح الكيماوي على جسد الضحية سليماً، يمكن لأم الضحية إن نجت أن تبكي عليه، وأن تدفنه أيضاً، وقد عزَّ الدفن بعد أن هربت الأرض.

اعتذرت النجمة، ثم اختفى الاعتذار، وكان أحد تلفزيونات مصر قد بادر إلى نجدة رانيا يوسف بعد موقعة سقوط فستانها من غير غزو كما سقط الباستيل، فندب التلفزيون أكبر المذيعين لإنقاذ سمعتها، وقالت يومئذ باكية لعمرو أديب: الفستان كان له بطانة ياعمرو

افتعل عمرو أديب الدهشة، وهو ممثل جيد، وقال يؤازرها ويسعفها: هو كان ليه بطانة؟

قالت باكية: أيوا يا عمرو.. وقعت على السلم.

لكن السخرية من ضحايا الكيماوي، ليست كفستان رانيا الذي كان يمكن لها أن تقول: انا أحبُّ إغواء الرجال، وقد زعمت فضة أن المشكلة كانت في المونتاج، كأنها توحي أنها مثلت لوحة للتعاطف مع ضحايا الكيماوي لولا أن السماء امطرت خوذات بيضاء على رؤوس رجال الإطفاء، وسقطت البطانة.

 لم نرَ في مشهد الكيماوي، علامات صليبية كالتي حملها قاتل مسجد نيوزيلاند على مخزن سلاحه، ولا شعارات داعش أيضاً، لكن، مؤكد أن عطر السارين سيفوح من الممثلة المحبوبة، وسيشمّه الناس طويلاً.

ومن نكد الدنيا أنّ أبطالنا جميعاً من الفنانين، لَعَمْري – نصف قرن مخابرات- إنه لأمر محزن حقاً أن نموت بالكيماوي ويعيش آخرون بالكيماوي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024