"الفرعونية الجديدة" وشكل الإيديولوجيا

شادي لويس

الأربعاء 2021/04/14

موجة الإحياء الفرعوني، التي نراها اليوم في معمار المباني الحكومية بالعاصمة الجديدة، وفي مشاريع مسلسلات تلفزيونية عن مصر القديمة، وموكب المومياوات الأخير، تستدعي تأملاً في أصولها وتحولاتها.

منذ لحظة التأسيس، ارتبط عِلم المصريّات بالحملة الفرنسية. ولم يكن من باب المصادفة أن يصل الهوس بالفرعونية في الغرب إلى ذروته، في فترة التوسع الاستعماري الأكثر توهجاً وعنفاً. فكما انتجت الامبراطورية علومها الأركيولوجية، فإن تلك العلوم، في المقابل، ولَّدت ما يبرر السيادة الغربية ويرسخها. والحال أن فك مغاليق التاريخ وحل ألغازه المستعصية لقرون، كان يعني صك امتلاك للماضي في يد قوة الاحتلال كما امتلكت الحاضر حينها. ففي كل كنز نبشته البعثات الأثرية في أغوار الأرض المخضعة بقوة السلاح، دلالة إضافية على عجز مزمن لأجيال من السكان الأصليين، وبهذا تغدو وصاية الغربي مبررة أكثر، ولأجل الحضارة نفسها.

يداً بيد، سارت الأنثروبولوجيا مع الأركيولوجيا، كعِلمَين استعماريَين على أسس عرقية، معنيَين بفك الشفرة الوراثية لثقافة الشعوب المستعمرة. فمن ناحية يظل المستعمَرون أحفاد الحضارات القديمة وورثة جيناتها الجسدية، ويغدو المستعمِرون من الجهة الأخرى ورثة مجدها الحضاري، فهم مكتشفوها ومفسّروها، أي أنهم ورثتها الحقيقيون. إلى مصر تحديداً، نسب الغرب جذرَيه الحضاريَين، العبراني واليوناني، وفيها فتش الأركيولوجيون الأوائل عن ختم التصديق التاريخي على صحة روايات الكتاب المقدس. كان الهوس الغربي بمصر القديمة، هوس بتأكيد الذات، بالانتساب إلى ماضيها المجيد كورثة طبيعيين، والتباهي بامتلاكها هي وكل حضارة أخرى في الحاضر، كملاك بحكم الأمر الواقع.

ولدت الفرعونية الجديدة من رحم الهوس الغربي بالمصريات، نسخة محلية منه، وبالآليات نفسها التي تشكلت عبرها الدولة الوطنية على نسق الإدارة الاستعمارية. كان السؤال نفسه، من يملك الفراعنة؟ وإن جاءت الإجابة بدلالة معكوسة. تبنت الحركة الوطنية، السردية العرقية كما هي، لكن بمسوغات تثبت حق المصريين في حكم أنفسهم، لا أن يوضعوا تحت وصاية الاحتلال. فحتماً أحفاد الفراعنة، بناة تلك الحضارة المجيدة، يحملون داخلهم سمات الأجداد، وهم قادرون على بعثها. هكذا تضافر تمصير علم المصريّات مع النضال لأجل الاستقلال، فالحق الحصري في تراث الفراعنة وتمثيله يقع في صلب مسألة السيادة.



إلا أن عملية تمصير مصر القديمة، لم تكن أبداً بالتلقائية المدّعاة لعودة الحق لأصحابه. فالرغبة في تجسير هوة خمسة أو سبعة آلاف سنة من التاريخ الغائم والمشفر، لم يكن ممكناً تفعليها سوى بالمزيد من الأساطير. وفي العموم، فالهويات الوطنية التي صيغت في مطلع القرن العشرين، ليست بُنية متجانسة داخلياً بأي حال، بل تشكيلة أيديولوجية متعددة المراكز، ومحتشدة بالتناقضات والفجوات والشروخ. لذا، فمسيرة الفرعونية الجديدة، بصيغتها الوطنية، قصيرة العمر، سرعان ما واجهتها تحديات المرجعيات الإسلامية والعروبية، وهويات أقلوية وهامشية أخرى، كالقبطية والانتماء المتوسطي.

إلى اليوم، تكشف العملات الورقية المصرية، آثار تلك التقاطعات والتوترات، بصورة جلية. فأحد وجهَي الورقة، يحمل عادة صورة صرح أو نقش فرعوني، فيما يصور الجانب الآخر معلماً أثرياً إسلامياً. إلا أن تلك الثنائية لا تقدم علاقة متكافئة بين المرجعيتين، ويمكننا تبين ذلك بسهولة مع نظرة ثانية. فالوجه الإسلامي للعُملة، ترافقه دائماً الكتابة العربية، وفي المقابل فإن الآخر الفرعوني مطبوعة عليه ترجمة النص بالإنكليزية. هكذا يظهر الإسلامي/العروبي مرادفاً للتصور الهوياتي الداخلي، فيما يتوجه الفرعوني إلى الخارج، وأحياناً كثيرة بهدف "إبهار العالم"، معوّلاً على الهوس الغربي القديم. أما الوظيفة الأخرى للفرعونية، فهي صيغتها الجامعة، تلك التي يمكن وضع المُستَثنى من الإسلامي/العروبي في ظلها، أي تضمين القبطي والنوبي داخلها.

تتجاوز علاقة توزيع الأدوار بين الإسلامي/العروبي، وبين الفرعوني، فصامية الداخل والخارج. فالأحمال الخطابية للهوية الوطنية تركزت في معظمها حول المحور الأول، فيما وُظّف الفرعوني في أدوار تظل في معظمها جمالية. كانت "الفرعونية الجديدة" بالأساس شعاراً أطلق بأثر رجعي على مدرسة تشكيلية ومعمارية، قبل أن يتم بسطها بصرياً على مساحات هوياتية أوسع. ولهذا، تعرض الفرعونية أكثر مما تقول، إلا أن هذا لا يعني إنها مجرد زخرفة أو حلية تزين الإطار الهوياتي، بل على العكس، فهي تقدم لنا تجسيداً نموذجياً للكيفية التي تتحول فيها الأيديولوجيا إلى شكل، وبالعكس، الطرق التي ينتِج بها الشكل علاقات أيديولوجية.

ففضلاً عن عناصر الضخامة المهيبة والتكرار والاستمرارية والمركَزَة، التي تميز جمالياتها ويمكن تصور تقمصها بواسطة منظومة الحكم المعاصرة أو إسقاطها عليها وكذا استبطانها في المخيلة العامة، فإن قوة "الفرعوني" تكمن في استغلاقه، في بقائه صامتاً وبعيداً، في أنه يظل غريباً ومألوفاً في آن واحد، ليمارس تأثيره شبه السحري عبر الغموض وعدم المباشرة. على عكس الإسلامي/العروبي، تبدو القطعية الزمنية الهائلة للفرعونية مع الحاضر، أحد أركان قوتها المنوّمة، فالإيغال في التاريخي، إلى حد يصبح فيه المدى الزمني غير قابل للقياس، يعني طمساً للذاكرة القريبة وللآني، وإحلالها بذاكرة دهرية وأسطورية، لكن حقيقية تماماً في الوقت ذاته. فمن يستطيع إنكار عظمة الحضارة الفرعونية وصروحها الماثلة إلى اليوم؟ أو أن المصريين المعاصرين هم ورثتها؟ لكن ما يغيبه هذا الإقرار هو معنى هذا الميراث في واقع الحياة اليومية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024