"بابا العرب"

شادي لويس

الثلاثاء 2019/11/12
في كتابه "الهوية القبطية والسياسات الأيوبية" (2010)، يحدد كيرت ويرثمولر النصف الأول من القرن الثالث عشر، بوصفه الفترة التي شهدت نقلة استثنائية في وعي مسيحيي مصر بهويتهم. كانت العربية قد استقرت كلغة يومية لعوام الأقباط قبلها بوقت طويل، وبسطت سيطرتها على اللاهوتي أيضاً، فتبنتها الكنيسة في نصوصها ومكاتباتها، بل وأضحت اللغة التي يُتلى بها القسم الأكبر من صلوات القداديس. كان العسف الذي تعرض له المسيحيون المشرقيون في أراضي الأمارات الصليبية وطردهم من بعضها، قد دفع كنائسهم لتجذير انفصالها عن إطار مسكوني يربطها بكنائس الغرب، وتحويل وجهتها إلى الداخل والمشرقي لتعيين حدود هويتها. ومع استقرار وضع القاهرة الأيوبية كمركز للحكم يبسط سلطته على سوريا الكبرى، أضحى لدى باباوات الأقباط طموح للتمدد نحو الشرق.


يخصص كتاب ويرثمولر أحد فصوله للأزمة التي سببها قيام البابا كيرلس الثالث، المعروف بابن اللقلق (1243)، بتعيين مطران قبطي على القدس للمرة الأولى، وللمراسلات بينه وبين بطريرك انطاكية الذي اعتبر تلك الرسامة تعدياً على اختصاصات كنيسته السريانية، ليكشف الكتاب لحظة مهمة في تصور كنيسة الإسكندرية عن نفسها، مسؤوليتها وسلطتها وما تمثله، والتي لا تقف عند حدود وادي النيل.

قبل أسبوعين، وحين ثارت الضجة حول إنتاج مسلسل وفيلم سينمائي عن حياة البابا شنودة، كان اسم العملين، "بابا العرب"، هو ما أثار أكثر الجدل. فلطالما سعى تيار قبطي إلى نفي العروبة عن الأقباط، بل ووضع القبطية كضد لها. فالقبطية هي الأصل والنقي، أما العربي في المقابل هو الدخيل والغريب. وفضّل معظم الأقباط منذ الاستقلال، صيغة الوطنية المصرية على أي من الصيغ القومية أو الهويات الأوسع العابرة للحدود، كون الإسلام يشكل ركناً رئيسياً من أركانها. وجاءت اعتراضات أخرى على اللقب العروبي للبابا، معتبره إياه محاولة تسويقية مبتذلة لترويج العمل بين جمهور أوسع، أو مقولة مختلقة وراءها أغراض سياسية لا أكثر ولا أقل. 

ولا تفتقد تلك الاعتراضات للمنطق بالتأكيد، لكنها تتجاهل حقيقة أن تعريفات "العروبة" أو "العرب" أو "القبطية"، كما نفهمها اليوم، ليست سوى مفاهيم حديثة، وتتناسى أيضاً بأن وعي الأقباط بأنفسهم، والذي نطلق عليه اليوم الهوية، لم يكن واحداً أو ثابتاً في أي وقت. فمنذ عهد ابن اللقلق إلى اليوم، تعرض ذلك الوعي لكثير من التبدلات والتشظي والتفرعات، بشكل جذري بحيث يصعب تبينها بوضوح وتفصيل اليوم. يعود الفضل في لقب "بابا العرب" لوسائل الإعلام السورية، التي أطلقته على البابا شنودة أثناء زيارته لمخيم اليرموك في سوريا، العام 1997. ورغم صحة الواقعة، إلا أن مسألة العروبة الباباوية أقدم بكثير من هذا.

فالعلاقة شبة الأسطورية بين عبدالناصر والبابا كيرلس، كانت قد وصلت إلى ذروتها مع استعادة الكنيسة القبطية لجسد القديس مرقس الرسولي من الفاتيكان في العام 1968، وسجل الحدث حينها كتجلٍّ لتأطير الكنسية القبطية كمؤسسة روحية مناهضة للاستعمار، فهي تستعيد رفات مؤسسها من الغرب المعتدي، ومن ورثة التجار البنادقة الذين سرقوه قبل قرون. تم تضمين كنيسة الأقباط في الأيديولوجيا الناصرية، فوطنيتها ومناهضتها للاستعمار تعني بالضرورة عروبتها أيضاً. ولم تقتصر الصبغة العروبية على باباوات الكنيسة، بل وصلت إلى قديسيها أيضاً ومعجزاتها. فظهورات العذراء على قبة كنيسة الزيتون بالقاهرة في العام نفسه، وبعد شهور فقط من النكسة، احتفت به الصحافة العربية كعلامة على مناصرة السماء للقضايا العربية، وذهبت صحف حينها إلى أن الظهور سيظل ممتداً حتى تستعيد الجيوش العربية القدس مرة أخرى.

تظل العلاقة المضطربة بين السادات والبابا شنودة، وتحريم الأخير على رعايا كنيسته زيارة القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي، واحدة من أقوى الأسباب لترسيخ الصورة العروبية للكنيسة. فرغم أن تحريم زيارة القدس كان مدفوعاً بخلافات البابوية مع السلطات الإسرائيلية على ملكية دير السلطان، فإن الكنيسة القبطية لم تمانع القصص التي راجت وتم تضخيمها عن سبب الخلاف بين السادات والكنيسة. فعدم قبول شنودة لاتفاقية السلام، ورفضه لمرافقة الرئيس في زيارته الشهيرة لتل أبيب كانت السبب وراء عزل البابا من منصبه وتحديد إقامته. ولا تبدو تلك الرواية قوية بما يكفي لتصديقها، لكنها ساهمت في رسم صورة البطل العربي للبابا الراحل بأي حال.

اليوم، يشعر الكثير من الأقباط بالغبن تجاه الغرب، فبروباغندا نظام الثلاثين من يونيو قد روجت لوقوف الولايات المتحدة والقوى الأوروبية وراء جماعة الإخوان المسلمين، وعلى الضد من مصالح الأقباط. وفي الوقت ذاته، جاء لقاء العاهل السعودي بالبابا تواضروس، في أحد فنادق القاهرة في العام 2016، ولقاؤهما الثاني في الكاتدرائية المرقسية بعدها بعامين، ودعوة ولي العهد محمد بن سلمان للبابا حينها لزيارة السعودية.. كأحداث استثنائية، لم تؤكد فقط على تماهي الكنيسة مع دبلوماسية النظام الحاكم في مصر، بل نمّت عن بُعد "عروبي" جديد للكنيسة يتم تأطيره داخل التحالف الإقليمي الذي تقوده السعودية.

لن تقف تبدلات علاقة الأقباط وكنيستهم بالعروبة، وغيرها من محددات الهوية الأخرى، فمفهوم العروبة التي تعيد تشكيلة الموجة الحالية من الثورات في المنطقة، يتبدل بشكل جذري ومتسارع، ويأخذ أشكالاً ونسخاً متناقصة، تنادي الثورات بامتلاكها بالقدر نفسه الذي تدعي فيه الأنظمة الحاكمة دفاعها عنها. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024