سجون وادي النطرون: المؤسسة الشاملة لنزلاء الإنتاج

شادي لويس

الأربعاء 2021/11/03
تطلق وزارة الداخلية أغنيتها المصورة، "فرصة للحياة"، احتفاء بافتتاح مجمع سجون وادي النطرون. المجمع هو الأكبر من نوعه في مصر، بمساحة تتجاوز 700 ألف متر مربع، ويقع في منتصف الطريق الصحراوي الواصل بين القاهرة والإسكندرية.

وبمنطق الحملة الإعلانية لشركة تطوير عقاري، يستعرض الفيديو مسقطاً أفقياً للسجن/المدينة أو للمدينة/السجن، ملتقطة من أعلى، واحة خرسانية في وسط الصحراء. يبدو تخطيط المجمع وقد صمم على نمط البارون هاوسمان الشهير. مركز واسع هو قلب المجمع، ينتصب فيه المبنى الإداري الضخم، ومنه تتفرع المسارات المرورية العريضة والمستقيمة، كأشعة الشمس، تخترق دائرة بعد أخرى من المباني وتقسّمها. لا يتقادم مخطط هاوسمان أبداً، فعملية إعادة بناء باريس، بحيث يسهل سحق تمرداتها، تظل صالحة اليوم لتصميم مدن مسورة كما لتشييد السجون. المدهش، لكن غير المفاجئ، هو تلك التشابهات بين مخطط مجمع النطرون، وقلب العاصمة الإدارية الجديدة: التصميم الشمسي نفسه، وعنصر الشكل ثماني الأضلاع المتكرر في كليهما.

السجن "مؤسسة شاملة"... في الستينات صك عالم الاجتماع الأميركي، إرفنغ غوفمان، هذا المصطلح. وبحسبه، تعرف المؤسسات الشاملة على أنها أماكن للإقامة والعمل لعدد كبير من الأفراد في أوضاع متشابهة، منقطعين عن المجتمع الأوسع لفترة طويلة، معاً يعيشون في دورة حياة مغلقة ومدارة بشكل بيروقراطي ومركزي. في المؤسسة الشاملة، على عكس الحياة في المجتمع، تتكثف المسافات إلى الدرجة صفر، يتم ضغطها حتى تتلاشي تقريباً، اللعب والنوم والأكل وكافة الأنشطة الاجتماعية يتم دمجها في حيز مكاني واحد. وكلما تقلصت تلك المسافات الداخلية، اتسعت المسافة بين حدود المؤسسة الشاملة وبقية المجتمع، حتى تبدو لانهائية.


تتنقل كاميرا أغنية "فرصة حياة" من عنابر النوم إلى مكتبة السجن، ومن بطاريات الدجاج إلى ورش التدريب، ومن المزرعة إلى المسجد ومنه إلى المشفي، ومن المرسم إلى الكنيسة...كنيسة في السجن؟ لطالما شكا الأقباط عدم مساواتهم مع مواطنيهم المسلمين، حين يتعلق الأمر بدور العبادة. فغير مسألة تصاريح البناء التي تخضع لقواعد مختلفة، لماذا تبني الدولة المساجد فقط؟ ولماذا تحتوى المؤسسات الحكومية على أماكن للصلاة للمسلمين وحدهم؟



في العاصمة الجديدة، دشنت الدولة واحداً من أكبر المساجد ومعه كاتدرائية قبطية، ولعلها صكت بذلك عُرفاً جديداً. يضم مجمع النطرون أول كنيسة في سجن مصري، ولعلها أيضاً الأولى داخل أي مؤسسة رسمية من أي نوع. لا يكتفي فيديو الأغنية بمَشاهد تم تسجيلها من داخل كنيسة أثناء رفع الصلوات، بل يعيد تأكيد الرسالة، ففي مَرسم السجن نرى أحد النزلاء يرسم لوحة للكاتدرائية المرقصية في القاهرة، وفي مشهد آخر عدد من النزلاء يبنون مجسماً لمسجد.



لا يخبرنا مفهوم المؤسسة الشاملة الكثير مما لا نعرفه عن السجن. لكن ما ينجح في لفت أنظارنا إليه، هو تلك التشابهات الرابطة بين عدد من المؤسسات التي تبدو متباعدة، المؤسسة العقابية ومعسكر الجيش والمصحّ والمدرسة الداخلية والمدن العمالية التي تُبنى حول المصانع. ما يحدث في كل تلك المؤسسات، لا يتعلق بتقليص المسافات أو مدّها فحسب، ولا بدمج الحيز المكاني وحده، بل بدمج الأدوار الاجتماعية للفرد، وقصرها على أحدها فقط.

غيَّر قطاع السجون المصري اسمه إلى "الحماية المجتمعية"، أما السجين فنال تسمية جديدة، هي "نزيل". لكن، وفي فيديو الأغنية الدعائية، يحمل الزي الموحد للسجناء شارات تعريف أكثر تخصصاً، "نزيل إنتاج زراعي"، و"نزيل إنتاج حيواني"...وهكذا، بحسب نوعية العمل في المجمّع. تتكثف العملية كلها فجأة حول الإنتاج، ومعها تتقلص هوية الفرد، بوصفه "نزيل إنتاج"، أو لنكون أكثر دقة، "سجين إنتاج".

لا يشبه مجمع النطرون حقاً العاصمة الجديدة. لعله أكثر شبهاً بواحد من معسكرات الجيش المنتجة، أو مدينة عمالية نصف مهجورة في الصحراء الخلفية للقاهرة. ولعل هذه كلها نسخ من نموذج مثالي واحد، جُزُر مسوّرة ومعزولة ومنفصلة عن بعضها بعض، للانضباط وللعمل.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024