لإنقاذ الحراك

مهند الحاج علي

السبت 2019/10/19

ليست الاحتجاجات الحالية في البلاد كسابقاتها، سيما أنها شاملة اليوم، وانضم إليها الجنوب والبقاع بأعداد وافرة. لكنها، ورغم كونها شاملة، لا هيئة أو ائتلاف مُنظم لها، وبالتالي هي غير قادرة على فرض أي أجندة أو مطالب محددة على أركان السلطة، بل الأرجح أن تُستغل سياسياً وتُحبط بعد اتساع دائرة أعمال الشغب. 

وهذا الاستغلال بدأ يحصل عملياً. بداية، رأى حزبا "القوات اللبنانية" و"التقدمي الاشتراكي" في الاحتجاجات فرصة للتصويب على فريق رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون، وتحويل الحراك إلى مواجهة سياسية لا يحتاج إليها لبنان اليوم.

ذاك أن ولادة سعر صرف غير رسمي في السوق السوداء قبل أسابيع، تُؤذن بانهيار اقتصادي سريع في حال وقوع أزمة سياسية داخلية لا أفق لنهايتها، سيما لو كان الهدف إسقاط رئيس الجمهورية، وهو يُسيّس التحرك ويُوجهه حزبياً. حتى لو كان الهدف من الاحتجاج إسقاط الحكومة اللبنانية وحدها، فماذا سيليها؟ 

لن ينزل رؤساء الكتل النيابية وزعماء الطوائف إلى الشارع لاستطلاع آراء الشعب حيال الحكومة المقبلة، ولن يحلّوا المجلس النيابي لإجراء انتخابات جديدة، بعد مرور سنة على الإتيان بهذه التركيبة. ولن يحصل انقلاب عسكري كما يتمنى البعض، لأننا في لبنان حيث الميليشيات والحساسيات والانقسامات المذهبية، وحيث الوصفة جاهزة لاحتراب أهلي، ودفع الشارع في اتجاهات مغايرة.

لن يعود الحريري في حكومة جديدة دون حزبي "القوات" و"الإشتراكي"، وهما مكونان أساسيان في تكتل بقايا حلف "14 آذار"، وبالتالي من الصعب على رئيس الحكومة الحالية التخلي عنهما. أي حكومة مقبلة سترأسها شخصية جديدة، وهناك عدد من السُنّة المرشحين لهذا الموقع، لكنها ستكون 8 آذارية، ولن تحمل اصلاحات جذرية، بل ستجذب صداماً مع المجتمع الدولي المانح، وعملية مكافحة فساد انتقائية تستهدف الخصوم لا الحلفاء.

والحقيقة أن أحداً في السلطة لا يملك رؤية اقتصادية خارج إطار مؤتمر "سيدر"، وهو يقوم على ضخ 11 مليار دولار أميركي في الاقتصاد اللبناني بعد اجراءات اصلاحية. الهدف من الاستثمارات هو إطلاق عجلة النمو الإيجابي. إلا أن هذه الخطة لن تُقفل دكاكين الفساد ولن تُحدث تغييراً بنيوياً مطلوباً لتغيير الاقتصاد على المدى البعيد. هذا صحيح. لكن اسقاط الحكومة وادخال البلاد في نفق مظلم أمنياً وسياسياً واقتصادياً لن يُحدث هذا التغيير أيضاً. المطلوب في هذه المرحلة الضغط بالشارع لإقرار إصلاحات بنيوية تمس بمنابع الفساد، لا اللجوء الى مراكمة الضرائب على المواطن لتمويل العجز المالي في الموازنة.

إحداث التغيير يمر أيضاً من خلال تنظيم الحراك المعارض لأركان السلطة، وبلورة خطاب اقتصادي وسياسي جديد. حينها فقط تتضح الرؤية، ويُفتح المجال أمام فرض أجندة إصلاحية وتحدي السلطة من خلال الانتخابات المحلية والنيابية. بعد مشاهد التحدي في كل المناطق اللبنانية، وظهور صوت اعتراضي عال، من الضروري العمل على تنظيم هذه الحركة، وبلورتها كبديل حقيقي ليس فقط في الشارع، بل أيضاً في صناديق الاقتراع، وفي الإعلام والثقافة، لتحدي السرديات السائدة في الخطاب السياسي.

مثل هذه المقاربة ستحول هذا الحراك، وفي ظل ارتفاع احتمالات تشتته واستغلاله سياسياً، إلى نقطة انطلاق سياسية، وليس الى محطة أخرى في سلسلة احباطات تعيشها الحركة الاعتراضية منذ عام 2005.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024