البدري فرغلي: بطل للمتقاعدين

شادي لويس

الأربعاء 2021/02/17

تعرفت قريبتي السبعينية على فايسبوك قبل عام تقريباً. طلبت من ابنتها أن تنشئ لها حساباً، وأضافت نفسها إلى مجموعة نقابة أصحاب المعاشات، حتى تتابع بياناتها بشكل دوري. لم يكن التعامل مع التطبيق عبر هاتفها سهلاً في البداية، لكنها، بعد أسابيع قليلة، أتقنت بضع عمليات أساسية، فاستطاعت إجراء الاتصالات بلا مشقة كبيرة، وإن كانت تتصل أحياناً في أوقات غير مناسبة. وعثرت على زملاء ورفاق قدامى، فرقت بينهم السنين، أو هم عثروا عليها. وبشكل عرضي صاغت صداقات جديدة مع من هم في سنها. ما جمعها والأصدقاء القدامى والجدد، كانت القضية المعروفة باسم "العلاوات الخمس". إذ رفعت نقابة أصحاب المعاشات دعوى على مؤسسات الدولة، وربحتها بعد سنين من المعارضات والاستشكالات من جهة ممثلي الحكومة.

كان البدري فرغلي، في القلب من هذا كله، لم يخلُ اتصال بقريبتي من ذكرها لشيء بخصوص الرجل، بحماسة مختلطة بالقهقهة. فهي لا تصدق جرأة الرجل في مهاجمته مؤسسات الدولة، وطريقته في الكلام التي تجدها فجة ومتهورة، لكن محقة. أسس فرغلي، البرلماني السابق، نقابة أصحاب المعاشات بعد ثورة يناير، وخاض مع نقابته سلسلة من المعارك الطويلة على جبهات متعددة، من وسائل الإعلام إلى الوقفات الاحتجاجية، وصولاً إلى قاعات المحاكم. تمويل المعاشات وتوفير دخول كريمة للمتقاعدين، ومصير أموال التأمينات المتراكمة ومدى الشفافية في التعامل معها، كانت أولويات النقابة. لكن بالنسبة إلى قريبتي، وكثيرين غيرها، كانت "العلاوات الخمس" هي الموضوع الأهم. بعد الفوز بالقضية، حصلت، مع عشرات الآلاف من أصحاب المعاشات، على ثلاث دفعات من المستحقات بأثر رجعي.

في اتصال قبل شهرين، أخبرتني مُداعِبة بأنها قد أصبحت غنية، فقد حصلت على بضع عشرات الآلاف من الجنيهات، في الدفعة الأخيرة، وانبرت في الثناء على فرغلي ومحامٍ من زملائها القدامى عمل في القضية. ورغم إن مبلغ المستحقات المستردَّة وحده كافٍ لجلب البهجة، إلا أن سعادتها الأكبر كانت في اكتشافها للسياسة، وهي في سن السبعين. السياسة، لا بمعناها الحزبي أو الانتخابي. بل باعتبارها شأناً يومياً شخصياً ومباشراً تماماً، تضامن ورفاقية من نوع ما. الشعور بالاستحقاق والمجاهرة بطلب العدل مع آخرين. والأهم، الإيمان بإمكانية تحققه، ومن داخل مؤسسات الدولة، التي تفخر بخدمتها فيها معظم عمرها. مكالمة بعد أخرى، كانت تخبرني المرأة المتقدمة في السن بكثير من الإثارة، عن اجتماعات مع محامين، ولقاءات ووفود صغيرة تتنقل بين المحافظات، وجلسات قضايا وأرقامها ومؤتمرات إعلامية. هي لم تحضر أياً من هذا بالضرورة، لكن أعضاء من نقابتها، باتت تعرفهم شخصياً، كانوا طرفاً في كل هذا النشاط.

تنتمي قريبتي وفرغلي إلى الجيل نفسه، شبّ كلاهما في العهد الناصري. بالنسبة إليها، كانت السياسة هي المدارس المجانية التي دخلها أبناء الفقراء، ووظيفة حكومية بضمان شيخوخة مستورة، ومعها أغاني الاشتراكية التي ما زالت تدندنها في المطبخ إلى اليوم. أما فرغلي، عامل رصيف الميناء، الذي دخل السجون في عهد ناصر ليخرج منها نقابياً يسارياً، ومن ثم نائباً برلمانياً عن مدينة بورسعيد لأربع دورات، فسيرته تحيط بها عشرات الحكايات البطولية كأساطير شعبية صغيرة. من إضرابات في الميناء، ودخوله المعتقلات، إلى قيادة مجموعة صغيرة من المقاومة الشعبية أثناء حرب الاستنزاف، وإعادة بناء مطار حربي بالجهود الشعبية بعد نصر أكتوبر، وبعض النوادر عن دراجته الشهيرة التي اعتاد التنقل بها بين بور فؤاد وبور سعيد، حتى بعد فوزه بمقعده برلماني، والنظارة السوداء التي ميزته مع صوته العالي بلهجة سوقية أمينة ومحببة. كل هذا جعله النائب الأشهر في ذاكرتنا الحية، أو كما لُقّب بقليل من الدعابة، "قائد المعارضة الشعبية".

كان البدري فرغلي، سياسياً من نوع فريد، مناضلاً عمالياً مثالياً، كما لو أنه خرج من واحدة من قصص الواقعية الإشتراكية. عمل بدأب على مستوى النضال النقابي، ودمجه بمستوى العمل الحضري والجهوي في تمثيله لمصالح مدينته في المجالس المحلية والبرلمان، وربط ذلك كله بمستوى وطني كنائب عصامي في المجلس التشريعي، وأخيراً بالعمل على مستوى فئوي، لصالح نقابة أصحاب المعاشات التي أسسها. فعل فرغلي هذا كله، من داخل المنظومة نفسها، وبأدواتها، متمسكاً بإيمان بسيط بأن السياسة يومية، وفي كل مكان، وأن الدولة تظل، رغم كل شيء، ملكنا جميعاً.

يوم الإثنين، وحين سمعت بخبر وفاته، أول ما خطر لي كان الاتصال بقريبتي لتعزيتها. بدا لي الأمر مُصاباً شخصياً لها، أكثر من أي شيء آخر. حاولتُ الاتصال أكثر من مرة، لكن هاتفها كان خارج نطاق الخدمة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024