النظام القوي والدولة الضعيفة

شادي لويس

الأربعاء 2020/06/10
تتواتر أخبار الوفيات، من دائرة المعارف والأصدقاء الصغيرة، ومن الدائرة الأوسع على شبكات التواصل الاجتماعي. وفاتان أو ثلاث في الصباح، وبنهاية اليوم ربما يصل العدد إلى خمس. المتوفون في الأغلب فوق الستين من العمر، وسيكون من غير اللائق السؤال عن سبب الوفاة. لكن الجميع يحزر، أو يتصور الاحتمال الذي يتفادى معظمنا الحديث عنه. وزارة الصحة المصرية تعلن أنه لديها الكثير من الأسرّة الفارغة لاستقبال المصابين في المستشفيات، لكن قصص المعاناة التي يتناقلها الأهالي وبعض وسائل الإعلام على استحياء، عن الطوابير الطويلة أمام المستشفيات، تقول عكس ذلك.

تعلن الدولة أعداداً يومية لم تعد مقنعة لأحد، بضع عشرات فقط من الوفيات كل يوم على مستوى الجمهورية كلها. أما إحصائيات الإصابات فتعكس ندرة عمليات المسح، والأعداد الكبيرة الباحثة عن مسح المصابين أو المتشككين في إصابتهم. خليط من القلق والحرص يسيطر على الجميع، الذين لم يبالوا باحتياطات التباعد الاجتماعي قبل أسابيع، ثم أصبحوا أكثر حرصاً، بعدما اقترب المرض من كل بيت ومكان عمل تقريباً. لكن وزيرة الصحة تصرح بأن العودة للحياة الطبيعية قريبة جداً، عمليات المسح التي كانت تجرى على القادمين من الخارج ألغيت، ويتم قياس درجة حرارة المسافرين بدلاً منها. الحجر الصحي على الواصلين إلى الموانئ المصرية تم رفعه أيضاً، الآن يوقع المسافر إقراراً بحجر نفسه في البيت. الإجراءات الصورية التي فُرضت في البداية، تم رفعها تدريجياً تزامناً مع ارتفاع وتيرة معدلات الإصابة والوفيات. المشافي الخاصة تعلن رفضها تطبيق التعرفة الحكومية للعلاج، وتهدد بالتوقف عن تقديم الخدمة.

"النظام القوي والدولة الضعيفة" كتاب مؤثر للراحل سامر سليمان، عن إدارة الاقتصاد والسياسة في عصر حسني مبارك. عنوانه يبدو مناسباً اليوم، كما كان عند صدوره قبل أربعة عشر عاماً. النظام الحالي الأكثر بطشاً من سابقه، الأشد عنفاً والأوسع هيمنه على المجال العام ووسائل الإعلام، يأتي مقترناً بدولة ضعيفة وشبه عاجزة، أو على الأقل لامبالية، مؤسسات بتجهيزات شديدة التواضع وإجراءات صورية. وفي ظل غياب البيانات الموثوق فيها، والحدّ المقبول به من الخدمات الطبية الحكومية، والأهم غياب الثقة، يلجأ المصريون كعادتهم إلى شبكات الدعم الاجتماعي المحلية التي لطالما اعتمدوا عليها، الأصدقاء والمعارف والعائلة.

تفكيك العمل الأهلي وغياب النشاط السياسي، لم يترك أمام للمواطنين سوى شبكات التواصل الاجتماعي أو نقل البيانات من فم إلى فم، أطباء يقدمون نصائح طبية مجاناً عبر صفحاتهم الشخصية في "فايسبوك"، مئات الوصفات الطبية أو الطبيعية، وتنويعات عليها للوقاية أو للعلاج، يتناقلها المصريون مع إشاعات ومبالغات. أسعار الأدوية، ومعدات الوقاية تتضاعف أسعارها مرات ومرات، والدولة تناشد المواطنين التوقف عن الاستهلاك المبالغ فيه للفيتامينات. الأهالي يستغيثون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بحثاً عن أماكن فارغة في المستشفيات، أحياناً يأتي الرد أو يأتي متأخراً جداً. مبادرات أهلية يتم إطلاقها لدعم المصابين وأُسَرهم، لكنها تظل مقتصرة على العاصمة والمدن الكبرى، وغير قادرة على التصدي لحجم الحاجة. الأقاليم والريف تبدو بقعاً سوداء، بلا وسائل إعلام للتحقق من الأوضاع على الأرض، وبلا مبادرات أهلية من خارجها تصل إليها.

يواصل النظام حملة التوقيفات الأمنية التي شنها قبل أسابيع، لتضم صحافيين ونشطاء متهمين بالإرهاب، وفتيات "تيك توك"، أو مواطنين توجه إليهم تهم ترويج الشائعات عن انتشار الوباء. تدفع الدولة لعودة النشاط الاقتصادي إلى معدلاته المعتادة، بأسرع وقت ممكن. أما المواطنون فيجدون أنفسهم في مواجهة الوباء، بمفردهم تقريباً، وهم يتأملون تلك المعادلة الفادحة: كلما زادت سطوة النظام، تداعت الدولة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024