الإيمان بالعِلم.. ونبذ مؤسساته

شادي لويس

الأربعاء 2021/02/03
طوال نصف قرن أو أكثر، بعد الحرب العالمية الثانية، انخرطت الفلسفة النقدية، أو بعض من مدارسها على الأقل، في عملية هي الأكثر قسوة لتفكيك تراث التنوير، العقلانية والمنطق وبالأخص العِلم. في ضفتي الحرب الباردة، كان الإيمان المطلق بالعِلم هو القاسم المشترك بين مادية السوفيات الجدلية من ناحية، والرأسمالية الفردية في الناحية الأخرى. حرب النجوم والهبوط الأميركي على سطح القمر، بروتينات التغذية المصنعة من البترول في المعامل الروسية، وعود يوتوبيا مستقبلية في المحطات الفضائية الدولية، عمليات التطعيم الواسعة والقضاء على الأمراض المستوطنة، معارض للفن تزخر بلوحات ضخمة لماكينات ومدن من الصلب وروبوتات مجنحة،.. كل هذا في ظل الرعب الدائم من الفناء النووي. وتقاطعت أحلام البروباغندا والكوابيس على أرضية العِلم، في دول ما بعد الاستقلال أيضاً، السباق المحموم نحو التصنيع، التوسع الهائل في شبكة التعليم والصحة. كان التقدم، بوصفه الشعار الأول للاستقلال الوطني، مرادفاً للعلمية، العِلم كوسيلة وكغاية في حد ذاته.

رواد مدرسة فرانكفورت، الذين شهدوا أهوال المحرقة في أوروبا وصدمتهم الحياة الآلية والخاوية في الولايات المتحدة، كانت معضلتهم مع العِلم وتقنياته أخلاقية بالأساس. الحياد البارد للمنطق العلمي بدا كطاقة مرعبة للشر في أكثر صوره تجرداً وتدميراً. وبمسحة صوفية، جاء النقد الثقافي لعصر التقنية، كحنين رومانسي لعالم ما قبل صناعي، أكثر طبيعية وندرة وروحية. ما بعد الحداثيين، الذين خذلهم الحلم الشيوعي في نسخته الستالينية، انكبوا بدورهم على تفكيك العِلم، لكن بوصفه خطاباً للمعرفة ومؤسسة للسلطة، أداة بيروقراطية للتحكم والهيمنة، وإنتاج الذوات البشرية وتشكيلها. لهؤلاء جميعاً، كان الإيمان بقيم التنوير خطراً يستحق المواجهة، فسعوا إلى دحض وَهمِ انفصال العِلم عن السياسة، وتأكيد تداخلهما. بل وذهب البعض إلى ما هو أبعد من ذلك، باعتبار العِلم نوعاً من السياسة بقواعد تجريبية.

ومع هذا، ظل العِلم إلى اليوم يحتفظ بمصداقيته، استطلاعات الرأي تؤكد أن الثقة فيه لم تتزعزع، ومستقرة عبر العقدين الأخيرين. لكن تلك الثقة تبدو كإيمان مجرد، يتصور قيمة مطلقة ولا يعول على مؤسسات بعينها في المجتمع. جاء الوباء بحقائق صادمة، وأكد ما كنا نعرف بعضه من قبل، حوالى نصف السكان في الولايات المتحدة على سبيل المثال لا يصدقون الهيئات العلمية، ولا يعتقدون أن فيروس كورونا يشكل خطراً. إنكار الوباء لا يقف عند حدود نظريات مؤامرة المتضاعفة بشكل يومي، بل يمتد كتشكك واسع عابر للحدود في المؤسسة العامة والنظام السياسي. عدم الثقة في الهيئات الوطنية، يعززه توجس لا يقل عنه عمقاً في الهيئات العلمية ذات الطبيعة الدولية. الشك يطاول وزارات الصحة المحلية ومنظمة الصحة العالمية على السواء. في واحدة من استطلاعات الرأي، أكثر من ستين في المئة من الفرنسيين غير راغبين في تلقى لقاح الفيروس. ويعود استبيان وزع في مشافي العزل في القاهرة، برفض نسبة معتبرة من الطواقم الطبية لتلقي اللقاح الصيني، إذ يفضل الكثير منهم انتظار وصول لقاحات أخرى، أكثر مصداقية. نِسَب الإقبال على حملة التطعيم أعلى بشكل مطمئن في المملكة المتحدة، لكن النسب تتهاوى إلى أقل من أربعين في المئة بين الأقليات الإثنية هناك. تاريخ طويل من سوء المعاملة والتمييز المؤسسي والعنصرية، ما زال آثاره محسوسة بقوة بين المجموعات السكانية من غير البِيض.

تكشف الاستطلاعات حول العالم أن النساء أقل ثقة في اللقاح من الرجال، بفارق معتبر. الفئات الأقل حظوة في النظام القائم، لا يطمئنون له بالضرورة. أيضاً الأجيال الأكبر سناً، تلك التي حظت بحماية دولة الرفاه أو على الأقل الحلم بها، أكثر ثقة بكثير من الأجيال الأصغر، التي تربّت في ظل عقود من سياسات التقشف وما واكبها من تراجع في كفاءة المؤسسات العامة وتخلي الدولة عن أدوارها الرعائية. في فترة الوباء، قام التلاعب السياسي الفج على آراء الخبراء العلميين، وترويج المعلومات الكاذبة بتحميل العِلم كل آفات السياسة، مع حرمانه من أعذارها البراغماتية. أما منطق الحكم، الذي بات في معظمه قائماً على ترويج الخوف في أماكن كثيرة في العالم، فوجد أصحابه صعوبة في عكس آليات عمله، أي أن يصبح مصدر للطمأنينة.

في كل من الجنوب والشمال، قاد تبدد أحلام التقدم المتفائلة، مع الاختلال الواسع في توزيع فوائده، إلى زعزعة اليقين في دين التنوير الوحيد. ولا تقود هذه الأزمة الطارئة من انعدام الثقة، إلى تحرر من وهم انفصال العلم عن السياسة، بل إلى فصام، بأعراض قطبية تتنازعها الثقة المطلقة في العلم كإيديولجيا، مع التشكك الهوسي في هيئاته. نسخة علمانية من معادلة تطهرية قديمة ومكررة، تؤمن بالمثالي والمجرد، وتعجز عن استيعاب الواقعي واليومي، وعن التعامل مع تعقيداتهما.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024