بصْبصَة، لا قراءة، ولا معلومة

دلال البزري

الخميس 2017/01/05

  كورنيش المزرعة، الفاصل بين بيروت الشمالية والجنوبية. في نصفه تقريباً يقع تقاطع نقطة "البربير"؛ وإسم "البربير" هذا عائد إلى مستشفى ضخم، بمقاييس الأحياء المأهولة، كان له عزّه قبل الحرب الأهلية. ترتاده نساء خليجيات منقّبات كما البدويات، برفقة شيوخ يلبسون الحطّة والعباءة، وجميعهم أتى للعلاج في هذا المستشفى، الذي فرض إسمه على الحيّ، لشدّة إزدهاره. اليوم، هذا المبنى مهجور، جزء منه متروك للجيش، بما يشبه الثكنة، فيما الباقي خال، موحش، بابه الرئيسي مغلق بالسلاسل، نوافذه مخلَّعة، وأسواره مسودّة، تنبعث منها رائحة كريهة... يشهد، وبأسى، إلى مرحلة كان فيه المستشفى محجّة للخليجيين الباحثين عن علاج لا يجدونه في بلادهم. اليوم لا خليجيين يستشفون في لبنان، تركوها للعراقيين شبه الفقراء، بعدما بنوا مؤسساتهم الإستشفائية بأكثر الطرق علمية وخبرة. حال مستشفى البربير هو مستقبل بناية "السفير"، وربما "النهار" لاحقاً، وغيرها من مباني الصحف والمجلات الأقل شهرة... عن قريب سوف تُخلى، وإذا إختلف الورَثة على تقسيمها، قد يكون مصيرها كمصير مستشفى البربير: شاهدة على مرحلة الإزدهار الإعلامي اللبناني، ليس إلا.

أسباب كثيرة تقف خلف إغلاق الصحف العريقة، أو في طريقها إلى الإغلاق. استفاض بها المعنيون: عوْلمة، مال سياسي، تطور تكنولوجي، إعلانات متضائلة، مشكلات التوريث الخ. ويمكن إضافة أسباب أخرى، ومقارنة الصحافة المكتوبة بكل ما دخل إلى مجتمعاتنا من طرق أو مناهج أو وسائل حداثية؛ حطّت علينا من فوق ومن الخارج، ولم تحسن غرس القيم التي تدعيها، أو ان تلك القيم نفسها اضمحلت؛ فبات "التراكم" المعرفي الذي وضعته، حجرة فوق حجرة، في مهبّ تطورات أقوى منها. فصار من الضروري الإستغناء عنها، تفادياً للخسائر، أو الكوارث الإقتصادية.  

و"الأسباب" يمكن أن لا تنتهي. ولكن الأخطر هو النتائج المترتبة على غياب الصحافة اللبنانية المكتوبة: إفراع معنى إضافي من معاني لبنان، بصفته "منارة"، وملتقى للأفكار والتيارات المختلفة، بعدما انمحى معناه الخدماتي، الصحي منه والسياحي، منذ عقود. لبنان الذي نعرف، على تواضع إمكانياته، سيتصحّر معلوماتياً، تحليلياً، وثقافياً. سوف تدور الأشياء من حوله، ولن تجد ما يعلمك به غير التلفزيون الأبله الديماغوجي الذي يعطي الأولوية لدغْدغة العواطف السَمجة، على حساب نقل المعلومة. شخصيات ترفيهية، أخبار ترفيهية، وإن كانت مأساوية... ولكنها تبقى ترفيهية. وإذا نشط المواطن في إطار مواقع التواصل، تكون هذه هي صلته بالعالم القريب والبعيد، يبني معرفته بواسطتها، عن طريق "أصدقاء" هم من التوجه نفسه، يتبادلون المعلومة المفيدة، قد تكون غالباً مجرد شائعة؛ ثم يعجنوها ويخبزونها بحسب أهوائهم السياسية أو الثقافية. كلٌ في فقاعته المطمئنة، ممانعاً كان أو ليبرالياً ، تكفيرياً أو إخوانياً... وهكذا تتعزّز الجماهير مغسولة الدماغ، ومعها كل أشكال التسلط المخلِّدة للحكام المتضامنين العارفين.

لكن المفارقة المحزنة تكمن في ان هذا التلاشي المعرفي، هذا الإفقار المتسارع للعقول، يحصل في وقت تضاعفت فيه حاجتنا إلى المعلومة الميدانية الصحيحة، أو على الأقل المعلومتين المتناقضتين، اللتين تسمحان لنا بالفصل بين أدقها أو أغلظها. فنحن والعالم أصبحنا كياناً واحداً، متداخلين معه، متفاعلين، سلباً أكثر من إيجاباً، متأثرين ببعضنا، متحاربين بأشكال متنوعة. نشبه بعضنا، ولا نشبه بعضنا. بقدر ما نشبه بعضنا، نتمايز عن بعضنا. نحن في عصر متحوّل، معقد، فوضوي... عصر "مسخ"، لا ينهي عهداً ولا يبني جديداً، وحروب بلا نهاية وخوف. القادة السياسيون يكذبون فيه، كذبات ساذجة، ولا يتورّعون. وكل ما يدور حولنا، بعيداً كان أم قريباً، يحدّد قدرنا، موتنا أو عيشنا، فقرنا أو بحبوحتنا. نحتاج إلى معرفة كل ذلك، في وقت نفتقد فيه إلى وسائل تلك المعرفة، لو كنا من المفتقدين. بل في وقت يفتقد غالبيتنا إلى ذاك الإفتقاد. يكاد الأمر عنده يتحول إلى فقدان.

 تحولنا إلى شعب من البصاصين، يبحث عن الصورة الجذابة، هي المعلومة بحد ذاتها. وهذه الجاذبية لم تَعُد تقتصر على العري. صارت المأساة مادتها الحية. الفضيحة الإعلامية التي اشعلتها أقنية تلفزيونية بعد مجزرة إسطنبول خير الدلائل: فلولا علم هذه الأقنية بأن "الجمهور عايز كده"، لولا يقينها بأن "سكوباتها" الإعلامية سوف ترفع نسبة "المشاهدات"، لما توحّشت كل هذا التوحّش بالإنقضاض على أدق دموع المفجوعين من الكارثة، بفظاظة ومهارة، تريح عيون الجمهور المتعطّش الى ترفيه خاص، يتفوق، بمزاجه الفريد، على الرقص والغناء... فالمهم عنده البصْبصة، وتنوّع موضوعاتها، منعاً للضجر من فراغ المعاني...



©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024