أفول الامبراطورية

أحمد ناجي

الأحد 2019/10/13
في ديسمبر 2018، بعد سلسلة من الصدف والظروف المتقاطعة، وجدت نفسي في أحد مطاعم نيويورك الفخمة على طاولة طعام مع مجموعة من رجال وسيدات من صفوة المجتمع الأميركي الأبيض. معظمهم داعم ومتبرع للقضايا التى تمس حرية الرأى والتعبير في أميركا والعالم، كلهم أيضاً أعضاء في الحزب الديموقراطى وبنوا ثرواتهم من العمل في صناعة النشر أو في المناصب القيادية في الإدارة الحكومية.


في هذه الأجواء، أتحسس دائماً كلماتي، وفي العادة أتقمص دور المهاجر الجاهل تماماً، وحينها ترتخي دفاعاتهم ويرتاحون في الكلام ويستفيضون في الشرح والإيضاح. لم تكن نتائج انتخابات الكونغرس قد ظهرت بعد، لكن أحدهم تحدث بسخرية عن المرشحة الشابة أليكسا كورتيز، ابنة نيويورك التى انتزعت مقعدها من نائب ديموقراطى مخضرم وهي لم تتجاوز الثلاثين من عمرها. سألتُ المتحدث لماذا لا يؤيد كورتيز. فقال الرجل السبعينى الأبيض أنها لا تزال صغيرة والعمل السياسي معقد عليها، وأنه ليس مثل انشاء صفحة في "فايسبوك". ثم سألته عن رأيه في بيرني ساندرز، السياسي المخضرم، لكن ما إن نطقت اسم بيرني حتى امتعض كل الحضور وتلوّت وجوههم.

في غضب، قالت السيدة العجوز البيضاء، التى يتلألأ حجر الماس الكبير في يدها: "بيرني وهؤلاء الشباب المجانين، سيدمرون الحزب، إنهم السبب في الكارثة التى نحياها في ظل ترامب".

طوال عام لم أقابل أى شخص يتشارك في تلك الآراء مع هذه المجموعة، ببساطة لأني لم أتلقّ دعوات أخرى لمثل هذه التجمعات من البِيض الأثرياء. في المقابل، ومن دون وعي أو قصد، لاحظتُ أن كل أصدقائي الأميركيين الذين عرفتهم خلال العام الأول من إقامتي في أميركا، إما عدميون لا يرون أي أمل في السياسة الأميركية، أو مصوتون للحزب الديموقراطى.

في خلال الأسابيع الأخيرة، عادت السياسة لتطفو على سطح الحديث، مع اقتراب موعد الانتخابات، وتكرار اللقاءات الإعلامية مع مرشحي الحزب الديموقراطي. وبسهولة، بعد جملتين مع المتحدث، أصبحت أخمّن لمن سيصوّت. كبار السن وكل من هم فوق الأربعين، منحازون إلى جو بايدن، نائب أوباما السابق، ومعه فئة قليلة قد تصوت لإليزابيت وارنأما من هم فوق الثلاثين، والشباب الذين بدأوا حديثاً في تكوين عائلات، فمنحازون لوارن. أما بقية طيف الشباب، فيتوزعون بين مؤيدي بيرني ساندرز وكامالا هاريس والطفل المعجزة أندرو يانغ.

هذا التوزيع العمري يعكس أيضاً المسافات البعيدة المتباينة بين برامج المرشحين. فلدينا هذه المرة، مرشحون يتحدثون عن إسقاط ديون الطلاب، والتأمين الصحى للجميع، بل والدخل الأساسي للجميع. في المقابل، فالحرس العجوز للحزب، يرفض هذه الأجندة الاشتراكية، ويرى أن مثل هذه الأفكار تجر الحزب أكثر فأكثر في اتجاه اليسار والاشتراكية، ما قد ينفر رجال الأعمال والأغنياء من أعضاء الحزب، لأن تطبيق مثل هذه السياسيات يعنى ببساطة المزيد من الضرائب.

يتخوف شباب الحزب الديموقراطى من تكرار سيناريو 2016، حينما تحالفت قيادات الحزب لاستبعاد بيرني ساندرز لصالح هيلاري كلينتون. لكن الجميع، شباباً وكهولاً، ينظرون لمرشحي الحزب الديموقراطي ويجدونهم في حالة مزرية، بغض النظر عن برامجهم الانتخابية. فكلّهم يفتقر للكاريزما، حتى بيرني فقَد الكثير من وهجه الذي ميزه في 2016. أما أنا، كغريب مهاجر حديثاً، فأتابع النقاشات واللقاءات مع المرشحين، وأشعر أني اشاهد مرشحي انتخابات مجلس الشعب في دائرة ميت غمر. فالنقاشات كلها مضمونها تفاصيل إدارية صغيرة جداً، والخطابات معدومة الخيال، لا أحد يقدم رؤية أو شعاراً جذرياً قادراً على بث الحماسة مثلما كان الحال مع أوباما، ناهيك طبعاً عن انعدام أي أجندة خارجية لدى المرشحين، باستثناء ساندرز ووارن.

لكن حتى هذين الاثنين، وباستثناء موقفيهما المتباينين من إسرائيل، فتصوراتهم الخارجية  تعكس المسار الذي تتجه إليه أميركا منذ عهد أوباما. مزيدٌ من التقوقع والانسحاب من العالم، وتفويض وكلاء محليين للقيام بدور الشرطي في مناطق إقليمية متعددة. يمكن مثلاً أن نرى تعليقاتهم على قرار ترامب الأخير، بسحب القوات الأميركية من شمال سوريا. فإن وارن وساندرز يريان ضرورة عودة القوات الأميركية لكنهما يختلفان مع ترامب في التوقيت وكيفية الانسحاب.

ليس هذا التوجه نتيجة لتغيير الأفكار السياسية لدى النخبة الحاكمة فحسب، بل نتيجة مباشرة لانقضاء العهد الذهبي لسيادة الإمبراطورية الأميركية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. أو ببساطة، كما يعبّر عنها ترامب بمنتهى الفجاجة: "لقد تعبنا، نحن ندافع عن عشرات الدول ولا نتلقي أي عائد، آن الآوان أن تتحمل دول أخرى مسؤولية شرطة العالم".

ولا أدلَّ على أفول الامبراطورية وانكماشها، أكثر من المشهد الانتخابي الأميركي نفسه. فأميركا، التى لطالما تدخلت في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ودعمت مرشحين، ودبّرت انقلابات، أصبح نظامها السياسي من الهشاشة بحيث أن دولاً أخرى أصبحت تتلاعب في النظام السياسي الأميركي وفي انتخاباته. وذلك سواء من خلال الدعم المادي، على طريقة صفقات السعودية لترامب بعد فوزه، أو من تحت الطاولة من خلال اللجان الإلكترونية والتلاعب بالأخبار الكاذبة. حتى أن الأمر وصل بإيران المحاصرة أن تتدخل من خلال لجانها الالكترونية فتدبّر الهجمات على مواقع وصفحات المرشحين الأميركيين.

وبينما تستمر المسرحية الشكسبيرية لعزل ترامب، في صراع بيروقراطي عفن ورديء، يخرج ترامب ويصرخ: "يحاربونني لأني ناجح". يشير إلى أرقام الاقتصاد، وانخفاض مؤشرات البطالة. الاقتصاد الأميركي ما زال قوياً، بل ما زال الأقوى. لكن الامبراطوريات لا تنهار فقط بسبب مؤشراتها الاقتصادية، بل أيضاً حينما تغيب قوة الخيال وطموحه. وفي هذا، تشهد أميركا لحظة فقر مدقعة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024