"عدالة" مصرية بلا إيديولوجيا

شادي لويس

الأربعاء 2015/03/04
"لم نتدخل فى القضاء منذ العام 1952، وإذا كان فى قضية سياسية، بنعمل قضية سياسية، ونعمل حتى إحنا نفسنا قضاة، بنحكم زي ما احنا عاوزين، ونبعد القضاة عنهم. بدأ الموضوع بمحكمة الشعب، وكان أعضاء مجلس قيادة الثورة هم اللي بيحاكموا المتهمين، وكان ده بيدّي المعنى للناس بأن هذه القضية سياسية ولنا فيها رأي، فنبعدها عن القضاء.. لم يحدث أبداً أن تدخلنا مع أي قاض في أي شيء، لأن الحقيقة إن القضاء هو صمام الأمان في هذا البلد".. بتلك الكلمات يلخص جمال عبدالناصر، في خطبة له العام 1970، مفهوم العدالة كما اعتمده نظام حكمه، وطبيعة علاقات السلطة بالقضاء في فترة ولايته، والتي ورثها من بعده أنور السادات وحسني مبارك.

فصَلت "دولة يوليو" بين مجالين لمنظومة القضاء: أولهما، يمكن توصيفه  بالسياسي، وتخصصت فيه المحاكم الاستثنائية، بدءاً بمحاكم الثورة، ثم أضيف لها لاحقاً المدعي العام الإشتراكي، ومحكمة القيم ومحاكم أمن الدولة وإجراءات قانون الطوارئ والقضاء العسكري. أما المجال الثاني، أي اللاسياسي، فيقع في نطاق اختصاصه المحايد، العدالة الجنائية والأحوال الشخصية والمحاكم الاقتصادية والقضاء الإداري وغيرها من المحاكم الاعتيادية. وبينما خضع المجال الأول لسيطرة السلطة السياسية بشكل مباشر، تمتع المجال الثاني باستقلال نسبي سمح، على سبيل المثال، للقضاء الإداري، بإصدار أحكام  ضد السلطة التنفيذية وسياساتها والقائمين عليها، التزمت بتنفيذها أجهزة الدولة في معظم الحالات وتحايلت عليها إدارياً في بعض الحالات. بل وفي أحيان كثيرة، أصدرت أحكاماً نافية لأحكام المحاكم الاستثنائية الأولى، وبعضها أبطَل انتخابات وحلّ مؤسسات تشريعية. وبينما يبدو استبيان الحد الفاصل، بين السياسي وغيره، في منظومة العدالة، أمراً في غاية الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً، فإن الأنظمة المتعاقبة لجأت إلى المحاكم الإستثنائية بشكل انتقائي، وفي أضيق الحدود، كلما أمكن، وإن استغلتها أحياناً بشكل مكثف، لكن لفترات قصيرة أو لفترات ممتدة، لاستهداف فئات محددة من معارضيها.

فعلى سبيل المثال، وبالرغم من أن حالة الطوارئ كانت مفروضة طوال فترة حكم مبارك، إلا أن استخدام إجراءات  قانون الطوارئ ومحاكمه كان موجهاً بشكل أساسي للتعامل مع المعارضة الإسلامية، واقتصر اللجوء إلى المحاكم العسكرية بشكل شبه حصري للنظر في بعض قضايا الإرهاب والجماعات الجهادية المسلحة..

في ورقته الأشهر، "الإيديولوجيا وأجهزة الدولة الإيديولوجية"، يقسم المنظر الفرنسي لويس ألتوسير، أدوات الدولة اللازمة لفرض سيطرتها، بين أدوات قمعية، منها الشرطة والجيش والمحاكم والسجون، وأدوات أيديولوجية ومن بينها النظام التعليمي، والقانون، والأسرة، والمؤسسات الدينية والنقابية والثقافية والإعلامية. وبينما تعتمد الأدوات الأولى، المنتمية إلى المجال العام، على العنف لتفعيل وظائفها في إخضاع المجتمع وأفراده، فإن الأدوات الإيديولوجية، المنتمية إلى المجال الخاص، تعتمد في عملها على الإيديولوجيا، أي الاقناع. لكن ألتوسير يؤكد أن الأدوات القمعية، وإن اعتمدت على العنف في عملها بشكل أساسي، إلا أن فاعليتها تستلزم الاعتماد على الإيديولوجيا أيضاً، أي ضرورة تشكيل وعي "زائف"، بحسب التعريف الماركسي، لدى المواطنين، بمنطقية وعدالة واعتيادية الأدوات القمعية، بل ووجوب عنفها ومصداقيته. وينطبق ذلك على الأدوات الإيديولوجية، والتي، وإن كانت تعتمد على الإيديولوجيا بشكل رئيسي، إلا أنها لا تعمل من دون بعض العنف، ولو كان رمزياً في معظم الأحوال. 

من هنا، وبينما ترتكز منظومة العدالة على المحاكم، بوصفها إحدى أدوات الدولة القمعية، والقانون بوصفه إحدى أدواتها الإيديولوجية، فإن فاعليتها تستلزم اعتماداً متبادلاً بين وسائلها القسرية العنيفة من جانب، ووسائلها الإيديولوجية الطوعية من جانب آخر.

في هذا السياق، يبدو ناصر في خطبته، والتي أشار فيها إلى منظومة العدالة بوصفها "صمام الأمان في هذا البلد"، واعياً لضرورة الاعتماد على الإيديولوجي إلى جانب القسري لضبط المجتمع. لذلك، فإن توظيف نظامه والأنظمة اللاحقة، لنظام ثنائي وانتقائي للعدالة، تمتعت فيه مؤسسات القضاء الاعتيادي باستقلال نسبي، واستخدم فيه القضاء الاستثنائي في أضيق الحدود، هو أحد أهم أسباب تماسك هذا النظام وفاعليته.

هكذا، فإن تابوه "القضاء الشامخ"، وتضامن الحركة الإحتجاجية المصرية مع "انتفاضة القضاة"، بوصفها طليعتها إبان حكم مبارك، بالإضافة إلى انحسار نشاط المعارضة السياسية في ساحات المحاكم وتركيز جهودها في العمل الحقوقي خلال العقدين الأخيرين، كل هذا يكشف نجاح منظومة الحكم في استخدام الاستقلالية النسبية لمحاكمها الاعتيادية كصمام للأمان، يسمح بالتنفيس السياسي والإجتماعي، ويحوّل مجهودات المعارضة ونشاطها إلى العمل الحقوقي على حساب السياسي. وذلك عبر إقناع عموم المصريين، ومنهم أشد الخصوم السياسيين للنظام، بجدوى التعويل على إجراءات التقاضي لانتزاع بعض الحقوق في حدها الأدني، كبديل من التمرد المباشر أو العنف الأهلي.

لكن التطوارات الأخيرة، عقب 30 يونيو، تكشف عن تحول جوهري في عمل مؤسسات العدالة في مصر، وفاعليتها الإيديولوجية. فالأحكام القاسية ضد رموز المعارضة العلمانية، وأحكام الإعدام الجماعية ضد المعارضين الإسلاميين، والتي صدرت كلها عن محاكم اعتيادية، بالإضافة إلى أحكام البراءة لكل رموز نظام مبارك، بلا استثناء، ولرجال الأجهزة الأمنية المتهمين في قضايا قتل المواطنين، مع مواقف بعض القضاة العلنية الموالية للنظام الحاكم والمعادية صراحة للثورة.. لا تكشف فقط عن تحلل مصداقية نظام العدالة في مصر، وتنازل محاكمها عن استقلالها النسبي فحسب. بل أيضاً، والأهم، يظهر تخلي نظام الحكم عن أدواته الأيديولوجية، واعتماده كليّةً على الشق القسري في عمل محاكمه.

لا يعني هذا، بالطبع، أن نظام 30 يونيو، تخلى عن أدواته الإيديولوجية بالكامل. فالإعلام والمؤسسات الثقافية والدينية وغيرها، ما زالت تعمل بكفاءة عالية واستثنائية لفرض هيمنة خطاب السلطة الأيديولوجي. لكن المقصود هنا تحديداً، هو تعويل النظام الحاكم على القسري بشكل شبه حصري في عمل مؤسساته القضائية، وتخلي القائمين على منظومة العدالة عن استقلالهم الصوري السابق، طوعاً، وربما عمداً.

لا يمكن بالطبع الحكم على تبعات تلك التحولات، نظراً لآنيتها، لكن استمرارها مستقبلاً لا ينبئ سوى بتداعي ما تبقى من مصداقية العدالة في مصر، وبنزع صمام الأمان، الذي أحكمه ناصر يوماً، ويبدو الآن أكثر هشاشة من أي وقت مضى. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024