30يونية..ماذا فعل السياسي بالرومانسي؟

محمد طلبة رضوان

الأحد 2018/07/01

خمس سنوات، في عين الصديق قبل العدو، مدة كافية للاستماع إلى شهادات الجميع، حكايات القريبين، وتسريبات المعنيين، واعترافات الموجوعين، ومراجعات أصحاب الوعي والضمائر من الإخوة الأعداء، إخوانا ومدنيين، ومن هنا، فهي مدة كافية لإعادة النظر والقراءة ...


30 يونية ليست سببا لما بعدها، إنما هي نتيجة لما قبلها، كما أن كل ما حدث منذ 3 يوليو إلى الآن، في الثورة، وثوارها، ومؤيديها، هي نتيجة مباشرة للإصرار على نهج ما قبل 30 يونية، لا أتحدث هنا عن الإخوان من حيث هم إخوان أو التيار المدني من حيث هو كذلك، إنما أتحدث عن السياسيين من الجانبين، شيوخا وشبابا، في مواجهة الثوار من الجانبين شبابا وشيوخا، وأزعم أن هذه هي المعادلة منذ البداية، السياسي في مواجهة الثوري!!


أنبه ابتداء إلى قناعاتي التامة بأن الثورة فعل سياسي في جوهره، وأن مشكلة الثوار الأولى والرئيسة، والتي يحلو لي أن أبدأ بها لاعتبارها أولى الأخطاء، ابراء للذمة، وإنصافا - غير مستحق - للخصم، هي أنهم لم يديروا ما بعد 11 فبراير بشكل سياسي، وتورطوا في بلاهات ثورية وأيديولوجية لا حصر لها، وابتعدوا عن الأرض، إلى سموات من الوهم الرومانسي، وما قادم شيء مثل الوهم، ولا يعني إدانة السياسيين من الجانبين وتحميلهم مسئولية كل ما حدث إدانة "السياسة" أو ادعاء المفاصلة بينها وبين الثورة، إنما ادانة الفعل السياسي اللا أخلاقي الذي مهد الطريق إلى 30 يونية ولم يزل يحافظ للثورة المضادة - كل يوم - على استمرارها ومكتسباتها!


تعالوا نتذكر، قامت ثورة تونس، نجحت، لمعت الفكرة في أعين الحركات السياسية الشبابية، لم لا؟ ثمة أمل، تم الإعلان عن "إيفينت" 25يناير، أعلنت كل الأحزاب السياسية الرسمية - المحسوبة على المعارضة - عدم مشاركتها، لن نجبر أحدا على عدم المشاركة لكننا لن نشارك، الإخوان صرحوا بذلك، التجمع، الوفد، الجميع.


بعد أيام، كانت 28يناير إعلانا شعبيا واضحا لسقوط مبارك، هنا جاء "الرسميون" وشاركوا، الشباب طبعا شارك من البداية، كما أن أسماء معتبرة من كل الأطراف شاركوا بصفة فردية، لا أنسى محمد البلتاجي، مثالا ونموذجا ...


سقط مبارك، وبدأت المعركة السياسية، ابتعد الشباب، واكتفوا بدور الناقد الناقم، المراقب، أو قل ببعض القسوة، المتفرج، الإخوان، المجلس العسكري، خيرت، مرسي، حمدين، أبو الفتوح، البرادعي، حزب النور، تفاصيل كثيرة كان من شأنها الآتي: السياسيون يتصارعون على الكعكة، كتلة الشباب تفرقت نتيجة الاختلاف في الموقف من التعديلات الدستورية، والبرلمان قبل الدستور، ومحمد محمود، وأخيرا معركة الرئاسة بين الثوار والثوار، تلك التي كانت نتيجتها تفضيل نصف المصريين (تقريبا) لرجل مبارك أحمد شفيق عن هؤلاء المهاويس الذين لا نعرف لهم رأسا من قدم!


كان الإخوان قد وعدوا بالاكتفاء بالبرلمان وعدم خوض الانتخابات الرئاسية لكي لا يتحملوا فاتورة تصدر الإسلاميين إقليميا ودوليا، كما صرح بذلك مرشدهم في لقائه التلفزيوني مع وائل الإبراشي، لكنهم تراجعوا بعد أن ضغطت قوى إقليمية لإقناعهم بضرورة خوض الانتخابات، وعدم تضييع الفرصة "الوحيدة" لوصول الإسلاميين للحكم، مع تأكيدات على دعم الأمريكان لهم بوصفهم الأقدر على حماية المصالح الأمريكية في مصر بعد سقوط الحزب الوطني ورحيل مبارك ...


بعد نجاحهم، سالمهم العسكر، عدم الاقتراب من الجيش، أو اعلان فوز شفيق تم تأجيل اعلان النتيجة، المعلومة بالضرورة منذ اليوم الأول، بناء على الفرز في اللجان الداخلية، أعلن محمد البلتاجي عن الصفقة دون تفاصيل، وافقوا، استلموا البلد، وبدأوا ...


خالف الإخوان الاتفاق في محطتهم الأولى وعزلوا طنطاوي وعنان، كان قرارا تاريخيا، لكنه كان مؤشرا لدى العساكر بأنه لا أمان لمصالحنا مع هؤلاء، اختار الإخوان السيسي، ليس عن انخداع، أو أوهام بصلاته وبكائه وتدينه، فهو متدين بالفعل، ولكن على طريقة الدولة المصرية، وأزهرها، تلك التي تسمح لمن يصلي ويصوم بأن يسرق ويقتل ما دام ولي الأمر ويفعل ما فيه الصالح، اختاروه لأنهم رأوه أصغر أعضاء المجلس العسكري و"أهيفهم"، وهو كذلك بالفعل، تصوروا أنهم قادرون على أن يلعبوا معه، وقد كانوا، لولا أنهم جردوا أنفسهم من كل أسلحتهم تباعا، ليس بسبب الغباء كما يدعي الإخوان أنفسهم وأيتامهم من المتلبرنين والمتمركسين، وأبناء السبيل السياسي، إنما لاعتقادهم بأن العلاقة بين عساكر مبارك والأمريكان، هي علاقة السمع والطاعة، وأنه ما دام الأمريكان معك فلا أحد من العساكر ضدك، ولن يجرؤ كلب على النباح في وجهك، وهو الاعتقاد الذي يشاركهم فيه ويسبقهم إليه نظراؤهم من الناصريين، وهو اعتقاد غير دقيق، ليس لأن السيسي وعساكره وطنيون ولكن لأن الأمور لا تسير بهذه الطريقة!


اطمأن الإخوان تماما إلى وجودهم، وبدأوا في التصرف كما لو أنهم يسيطرون بالفعل على الدولة، ولا يحتاجون لأحد، مارسوا صلفا شديدا وتعاليا غير مستغرب عليهم في تشكيل الحكومة، جاءوا بعرائس ماريونت، يحركها خيرت الشاطر كيف يشاء، رئيس حكومة مجهول ووزراء لا يصلحون لمكتب سكرتارية، توازنوا مع مؤسسات الدولة في وزارتي الدفاع والداخلية، ومارسوا تطبيعا ذكيا مع الشارع في وزارة التموين، ودون ذلك فنحن أمام حكومة لا تبعث إلا على السخرية، وهو ما يظهر بوضوح لمن يعيد مشاهدة حلقات باسم يوسف - بتجرد - في فترة حكم الإخوان، والتي تعد إلى الآن أصدق تأريخ لهذه المرحلة!


ظهر استغناء الإخوان عن سواهم من السياسيين والثوار على حد سواء في إقرار الدستور، ذلك الذي وعد الرئيس بأنه لن يقر إلا بالاتفاق والمشاركة لا المغالبة، وسرعان ما نكث ليقر دستورا شديد المحافظة تبرأ منه أغلب التيار المدني وانسحبوا من لجانه، وهو ما فسره الإخوان وحلفاؤهم وقتها بأنه مؤامرة على الإسلاميين وتربص بهم، وتعطيل للمراكب السايرة!!


رفض الإخوان الاستجابة لكل المناشدات بتغيير الحكومة، تعديل تشكيلها، استبدال رئيسها، إشراك رفقاء الثورة، الاستعانة بالتكنوقراط، مارسوا استبدادا واستفرادا بالقرار في كل المساحات التي تمكنوا منها، وهو ما يفكك أسطورة أن عام حكم الإخوان كان الأكثر ديموقراطية في تاريخ مصر،  استنادا إلى حرية التعبير في الإعلام المصري وقتها، ورغم أن الإعلام لم يكن تحت سيطرتهم لاختبار هذه الحرية المدعاة إلا أنهم بذلوا كل ما في وسعهم لإخراس الخطاب المناوئ لهم، ووظفوا رجالهم داخل الجماعة وخارجها، ابتداء من التلويح بإغلاق القنوات كلها وفقا لتصريحات صفوت حجازي، والتي عللها بالحفاظ على الأمن القومي، مرورا بحصار مدينة الإنتاج الإعلامي، على يد أبو اسماعيل ورجاله، وحتى تعريض الرئيس نفسه بأصحاب القنوات وبعض الصحافيين بالإسم والصفة، واتهامهم بأنهم يهاجمون الإخوان لأنهم يريدون التهرب من الضرائب!


رفض الإخوان الاستجابة لنداءات الانتخابات الرئاسية المبكرة التي كانت كفيلة بانقاذ الثورة من الانقلاب، رفضوا أن يكون كرسيهم ثمن الاحتفاظ بالثورة، ملعون أبو الثورة، رفضوا نصائح الغنوشي بضرورة التحالف مع التيار المدني وشباب الثورة تفاديا لانقلاب وشيك، رفضوا تحذيرات محلية وإقليمية باحتمالات وقوع انقلاب، رفضوا تحذيرا واضحا جاءهم من الدوحة، سخر الدكتور مرسي من أحد مساعدي أردوغان وهو يخبره في مارس 2013 عبر الهاتف أن ثمة انقلاباً عسكرياً يجري التخطيط له في مطبخ الدولة، وسأل محدثه هازئا عن أحوال الطقس في اسطنبول، كانوا واثقين تماما، ليس من السيسي، ولكن من دعم الأمريكان، الطرف الأهم والأقوى في تصورهم، بل إن مرشد الإخوان رفض أن يصرح أحد أعضاء الفريق الرئاسي الذي يعمل في القصر الجمهوري أمام مسؤولي المحافظات في اجتماع إخواني خالص بمكتب الإرشاد عن تكهنات وتوقعات بوقوع انقلاب عسكري، وانفرد به ونهره لذلك، وطلب منه ألا يقلق إخوانه!


خسر الإخوان الجميع، خسروا المصالح المشتركة مع سياسيين لا يقلون عنهم براجماتية، كان يكفيهم بعض المكتسبات المادية والسياسية لينحازوا للدولة الجديدة، خسروا طاقة الشباب التي كانت كفيلة - في حال استثمارها بشكل صحيح - أن تغير كثيرا من المعادلة، وهو ما حدث بالفعل عندما استثمر السيسي ورجاله في سذاجتهم بدلا من أن يستثمر مرسي وإخوانه في طهارتهم وإخلاصهم، أصبحت المعادلة بالنسبة للسياسيين، المحسوبين ظلما على يناير، عودة النظام القديم أفضل،  فقد كان أذكى في توزيع تركة الحكم، والسماح بهوامش من الوجود في المجال العام، وبعض الترضيات المادية على شكل دعم سياسي يتلقاه صاحب الدكان من الخارج، أو "طرمخة" على فساد داخلي برعاية الدولة نفسها، ماذا جنينا من الإخوان كي نبقي عليهم أو نساعدهم أو نخسر علاقاتنا مع الدولة من أجلهم؟ أما الثوار فقد كانت ثقتهم بأنفسهم أكبر من أن تهتز أمام احتمالات عودة مبارك أو العسكر، كانوا يتصورون أنهم قادرون على هزيمة الجميع، كما تصوروا أنهم - وحدهم - من هزم مبارك!


سقط مرسي بعملية انقلابية، إقليمية، لا دخل للأمريكان بها، بل على العكس، لقد حاولوا تأجيل الانقلاب والتفاوض بشأن استمرار الإخوان وفق اشتراطات جديدة، إلا أن السيسي رفض، نعم العساكر يرفضون أحيانا، ليس لأنهم محترمون، ولكن لأن العلاقة بين الأمريكان وحلفاءهم في المنطقة تسمح بذلك، كان السيسي يعرف جيدا أنه في حال نجاحه لن يسع الأمريكيون إلا الاعتراف به والتعامل مع الأمر الواقع حفاظا على مصالحهم، لن يخوض الأمريكان معركة من أجل الإخوان، "كارت" واحترق، بل إن السيسي تجاوز حلفاءه الإقليميين أنفسهم حين قرر الترشح للرئاسة وهو ما كانت ترفضه الإمارات مفضلة استمراره في وزارة الدفاع وتقدم شفيق، لكنه رفض، وأصر على التصدر، وانتزعها، وظل حليفهم، وظلوا حلفاءه، وداعميه، ذلك لأن المصالح - وحدها - تتكلم ... وتحكم!


غير صحيح أن الإخوان كانوا أغبياء، على الإطلاق، كل ما حدث أنهم حسبوها بطريقتهم، و"الحسبة خرمت"، بالتوفيق في المرة القادمة، إن كان هناك مرة قادمة ...




©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024