لماذا نحب محمد علي؟

شادي لويس

الثلاثاء 2019/09/10
لا تقول فيديوهات محمد علي، المقاول الفنان، جديداً لا نعرفه في الحقيقة. مسائل الدور الاقتصادي للجيش، ميزانيته المستقلة، وأوامر الإسناد بالأمر المباشر، الفساد الإداري الضخم في هيكل الدولة، الإنفاق على مشروعات بلا عائد، غياب الرقابة المستقلة.. كل هذا تناولته بإلحاح وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، وكان مجالاً للبحث الأكاديمي، وكذا لا يغيب عن جلسات النميمة والتبرم في المقاهي والبيوت.

في مطلع الألفية، عملتُ سبع سنوات في مجال الهندسة الإنشائية، ولحسن الحظ (أو سوئه) كان ذلك أول مشروع عملت فيه لصالح مؤسسة عسكرية، وبعد هذا كان الجيش طرفاً في كل مشروع عملت فيه بشكل أو بآخر. فحتى في أحد المشروعات الإنشائية التابعة لوزارة الثقافة، كان مديرو الإدارات ووكلاء الوزارة من العسكريين المتقاعدين، ومقاولو الباطن شركات يمتلكها أقاربهم أو واجهات لأجهزة "سيادية"، أو الإثنين في الوقت نفسه. ولم يكن الأمر سراً، ولم يحاول أحد إخفاءه. تملك القوات المسلحة مساحات شاسعة من الأراضي، وميزانيات ضخمة لا يملك أحد مراجعتها. أما الأعمال الإنشائية، فكانت ولا تزال وسيلة الأنظمة المصرية المتتابعة، لتحريك الأسواق وتدوير رأس المال في أوقات الركود، وتوزيع صكوك الولاء على رجالها وتثبيت شبكات الزبائنية السياسية، وخلق طبقة أعمال تعتمد في وجودها على الدولة بالكامل.

فبالنسبة لمن اقترب من مجال المقاولات، كما في حالتي، ستبدو له مرويات محمد علي، تفاصيل يومية، قصصاً معتادة، بل وأقل من العادية، ولا تلفت الانتباه. أما مَن ليس لهم علاقة بالمقاولات أو الجيش، فإن تعاملهم الاضطراري مع مؤسسات الدولة وفسادها، كمواطنين عاديين، فلن يجعل أياً من تلك القصص صادماً أو مفاجئاً. ومع هذا فإن مقاطع الفيديو التي بثها محمد علي، لاقت اهتماماً مذهلاً، وخلقت قدراً هائلاً من الجدل والاحتفاء داخل دوائر المعارضين للنظام والمواطنين غير المنخرطين في السياسة، وحالة من الاستنفار داخل أجهزة الدولة الأمنية والإعلامية. حتى أن الكاتبة أهداف سويف، ذهبت إلى سرد طويل، في صفحتها في "فايسبوك"، عن مواصفات "البطل الشعبي" وربطتها بمحمد علي.

ولا تبدو التعليقات الجادة والساخرة، في شبكات التواصل الاجتماعي، التي قارنته بفيلم "عنتر ولبلب" أو بشخصية "علي الزيبق" ومسلسله الشهير، بعيدة من كل هذا. بعض من السخرية، وكثير من التوهان والحشو، قليل من المعلومات، تشويق، وتناقضات عميقة وشيء من التراجيديا.. هذا بعض مما تقدمه الفيديوهات.

بالطبع، يطرح محمد علي، شهادة فريدة. فهو من القلائل الذين استطاعوا أن يتحدثوا عن وقائع تتعلق بالسيسي شخصياً وبأفراد أسرته، بشكل وثيق. ويذهب أحياناً لمناداة أولاده بأسمائهم الأولى بشكل يوحى بمعرفة حميمة. ولاحقاً نعرف إن عائلته ترتبط بعلاقة نسب بأسرة السيسي. ويربط علي، بذكاء وأريحية، كل تلك التفاصيل الصغيرة، بالشأن العام وسياسات إدارة الدولة، ليرسم صورة لنظام حكم مطلق اليد، وغير رشيد، ولا يوجد مَن يحاسبه. وبسبب ذلك القرب، تبدو سخرية علي من السيسي واتهاماته لأسرته، وحديثه الذي يوجه له أحياناً كثيرة في مقاطعه المسجلة، كأنها شخصية جداً، وبين ندَّين. وتؤكد هذا الافتراض، صور الكوميكس التي تم تداولها بكثافة، والتي تظهر السيسي يشاهد الفيديوهات بنفسه، ويبدى امتعاضه مما يسمعه. هكذا، لا يرى المشاهد، محمد علي، فقط. بل ربما يرى في الخلفية، السيسي وهو يشاهد مهانته بنفسه ومن شخص يعرفه.

لكن، بعيداً من محتوى الفيديوهات، فإن سر جاذبيتها الشديد ربما يرجع إلى شخصية صاحبها وطريقة سرده لحكايته. وعلى عكس منتقدي النظام الآخرين، فإن المشاهد يجد نفسه في علاقة مركبة وشديدة التناقض مع علي. فالرجل الذي يؤكد مراراً وتكراراً على تواضع تعليمه، يظل صعوده السريع، وثروته التي يبدو أنها مازالت كبيرة، مثار غيرة وحسد، ومبرراً لاتهامه بالمشاركة في الفساد. وفي الوقت ذاته، لا يملك المشاهد سوى التعاطف معه، بدوافع عديدة، منها السياسي، كفضحه للنظام، ومنها الشخصي، كونه مطارداً أو مهدداً بالموت، أو بشكل أكثر بساطة لخفة دمه غير المتعمدة. يظهر علي "مشعراً" أحياناً، أي تحت تأثير قدر خفيف من "المكيفات" بما يكفي لجلب المزاج الجيد، ويبدو أكثر تركيزاً وانتباهاً في الفيديوهات الأخيرة. لكن، في كل الحالات، يبدو الخط الذي يتبعه سرده غير قابل للتوقع. فحيناً، يعتذر للسيسي عن جلب سيرة البيوت وأفراد أسرته في حديثه، ويوجه له الكلام مخاطباً إياه بلقب "حضرتك" باحترام حقيقي. وبعد دقائق، يسخر منه، واصفاً إياه بالـ"قزعة"، ثم يعود للحديث عن وقائع التبديد، متحدثاً عنها بأرقام دقيقة وأسماء. وفجأة يبدأ توجيه النصائح للسيسي، لتخفيف المكياج قليلاً، وبعدها تنتابه حالة من الغضب ويهدده أو يهدد الجمهور، أو يوصي المشاهدين بعائلته إن أصابه مكروه بصوت فيه استجداء حزين. ولاحقاً، يتباهى بحجم أعماله وممتلكاته، أو يتكلم بتواضع حقيقي عن سجله الدراسي المحدود.

وفي هذا كله، يبدو محمد علي صادقاً إلى أقصى حد، متناقضاً في براءة، وعفوياً ومؤمناً بما يقوله إلى النهاية. ومع كل واحدة من تلك التحولات، تصبح الفيديوهات التي قد يبلغ طول الواحد منها نصف الساعة، مشوقة إلى حد كبير. فلا أحد يعرف متى يظهر فيديو جديد، ولا تضمن أي دقيقة منه ما سيحدث بعدها، لتصبح التسجيلات ساحة دراما حقيقية لتفريغ جملة من ردود الأفعال المختلفة والمشاعر المتناقضة، الغضب الشخصي والعام، والضحك الاستياء والتعاطف والإحباط والحسد والخوف والشماتة، وكلها في عرض واحد بكاميرا ثابتة، وكثير من التدخين.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024