الأشباح المصرية

شادي لويس

الثلاثاء 2019/09/24

الشعب.. اليوم يخشى معظمنا المصطلح الفضفاض والغامض. فالشعب هو من أسقط مبارك في جمعة الغضب، وهو الذي صوت في غالبيته للإخوان المسلمين في كل استحقاق انتخابي بعدها، وهو أيضاً من نزل في 30 يونيو ليسقطهم، وجماهيره قبل أعوام قليلة رقصت للسيسي في الشوارع، وهي أيضاً التي خرجت يوم الجمعة الماضي تنادي بسقوطه.

لا أحد يعرف متى تجتاح الحشود الشوارع، ولا كيف، ولا لأي سبب، ولم يعد أحد يثق فيها في الحقيقة. روّج النظام سرديات متعارضة عن يناير وما بعدها. فمرة تذهب الرواية شبه الرسمية إلى أن كل شيء كان مؤامرة خارجية والشعب غُرِّر به. ومرة أخرى يبدو أن كل شيء كان محسوباً من قبل الجيش، وموجهاً للتخلص من جمال مبارك، ولاحقاً من حكم الإخوان. تتعارض السرديتان بالطبع، لكن نقطة الاتفاق بينهما هي تجريد الجماهير من أي قدرة على الفعل بشكل مستقل، فالشعب مادة جاهزة دائماً للاستغلال والتوجيه من بُعد، وكل حراك في الشارع خلفه مؤامرة، ولا يتم سوى بمؤامرة.

حين خرجت بضع مئات من المتظاهرين في مدن مصرية عديدة، في الوقت نفسه، يوم الجمعة الماضي، لم يجد كثيرون تفسيراً سوى نظرية "صراع الأجنحة"، تململ شرائح داخل النظام تسعى لإطاحة السيسي أو الضغط عليه لسبب من الأسباب. كانت التظاهرات استثنائية بالتأكيد، وفي حالة العمي التي تخيم على الجميع، لم يعرف أحد ما يحدث بالضبط أو لماذا. المتظاهرون أشباح ظهرت فجأة من تحت الأرض، الأحزاب المحاصَرة والمهددة قياداتها بالخطف أو السجن في أي لحظة لا تعرف عن هؤلاء شيئاً ولا تستطيع التواصل معهم، ولا تدعي حتى علاقة لها بهم، الأجهزة الأمنية التي تسيطر على كل شيء حد الاختناق تجد نفسها في نقطة العمى نفسها، وغير قادرة على مجاراة الأحداث، فالصِّبية والشبان الصغار الذين خرجوا ليتظاهروا لا يبدو أن لهم علاقة سابقة بالسياسة. ومع هذا يصعد الأمن من حملته لإلقاء القبض بشكل روتيني على قيادات حزبية علمانية ورموز من ثورة يناير، الأسماء نفسها التي يتم القبض عليها بشكل أضحى شبه دوريّ.

بعد انكشاف العدد الضخم من الاعتقالات في صفوف المتظاهرين، والذي وصل في بعض التقديرات إلى أكثر من خمسمئة، وكذلك حجم العنف الذي ظهر في المقاطع المسجلة للمواجهات مع الشرطة، تبدو نظرية "صراع الأجنحة" أقل مصداقية، وإن كان لا يمكن نفيها بالكامل. فنبذ فكرة المخطط المسبق يمثل معضلة، لأنه سيحمل في طياته نبذاً لمنطق السببية، وسيلقي بنا مرة أخرى لإيمان أعمى بفكرة السحر، تلك اللحظة الخارقة والعفوية التي تنطلق فيها الجماهير في وقت واحد، لحظة تعلَّم الجميع التماهي مع سحريتها الطاغية في يناير، وكرهَها حد التحريم لاحقاً.

في أيام التخبط في الظلام، لم يجد معظمنا سوى الانغماس في التأمل في خطاب محمد علي، وتحليل سر تأثيره الفريد في الشعب، أو تسليم أنفسنا للحظة من الأمل المفرط: الزمن سيعيد نفسه، الجمعة المقبل "جمعة غضب" جديد، والأمر انتهى، هذه حركة التاريخ ولا يمكن الوقوف في وجهها. وبقي البعض على أملهم في صراع الأجنحة، في انتظار العلامات البعيدة والتسريبات المجهولة.

يحبس الجميع أنفاسه في انتظار الجمعة المقبل. إما أن تكون معركة فاصلة، أو أن يقمع الأمن التظاهرات التي ستخرج قبل أن تتسع، وربما لا شيء على الإطلاق. حملات الاعتقالات مستمرة، والحضور الأمني ثقيل في الشوارع، ووسائل التواصل الاجتماعي تم إبطاؤها، وباستثناء بيان من الحركة المدنية الديموقراطية يدعو إلى تلافي صِدام دموي في الميادين، لا جبهة واسعة تتبني الحراك المنتظَر أو تقوده. حتى هذه اللحظة، لا يملك الجميع سوى الانتظار. النظام والمعارضة والناس في البيوت والمحللون، الكل في انتظار أشباح، لا أحد يعرف عنها شيئاً سوى أنها ظهرت من قبل وربما تظهر مرة أخرى، هكذا بمنتهى البساطة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024