الاستثمار في قسد

عمر قدور

السبت 2019/08/10
مع الشد والجذب الأمريكي التركي حول منطقة شرق الفرات يعود مصير ما يُسمى قوات سوريا الديموقراطية "قسد اختصاراً" إلى الواجهة، فأي اتفاق بين الجانبين ستدفع ثمنه الميليشيات التي يسيطر عليها الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني. أنقرة من جهتها تصر على عدم التخلي عن مطالبها، وتراهن على مزيد من الضغط على الإدارة الأمريكية التي قد تضحي بالميليشيات، أو بجزء من الأراضي التي تسيطر عليها، كي لا تذهب العلاقات الأمريكية التركية إلى عتبة أدنى من واقعها السيء الحالي.

نحن إزاء رئيس أمريكي لا يخفي تلهفه إلى الانسحاب من سوريا بلا ثمن، لولا كبحه مرات عديدة من قبل أركان إدارته. في عهد سلفه أوباما كانت المناقصة الأمريكية واضحة، واشنطن تريد مقاتلين ضد داعش على الأرض، وضمن هذه المهمة فقط بلا التزامات مستقبلية تقدّمها. الميليشيات الكردية كانت وقتها الطرف الوحيد الذي يقبل بتعهد ينص على عدم قتال الأسد، فضلاً عما يُسجل لها لجهة الانضباط الحديدي وحسن التنظيم. وكما نعلم سيطرت الميليشيات على مواقعها أصلاً بانسحاب قوات الأسد، وفي إطار يمكن فهمه موجهاً ضد فصائل المعارضة آنذاك. 

لمناسبة التهديدات التركية باجتياح مناطق في شرق الفرات، أطلق مسؤولون في الميليشيات الكردية تصريحات صارت مألوفة مع كل تهديد. ما يميز هذه التصريحات، خارج التوعد بمقاومة الهجوم التركي، ذلك العتب المتنوع على الجهات التي قد تتخلى عن الميليشيات، العتب الذي يبدأ خجولاً على الحليف الأمريكي ليمتد إلى الروس، وصولاً إلى الأسد الذي يُحمّل حينئذ مسؤولية الدفاع عن سيادة الأراضي السورية!

انطلاقاً من عتب مسؤولي الميليشيات نستطيع تحديد موقعها، فهي على علاقة تحالف معلن وعملي مع الجانب الأمريكي، لكنها أيضاً على علاقة وثيقة بالأسد والجانب الروسي، رغم التهديدات التي يطلقها مسؤولو الأسد بين الحين والآخر ضد الميليشيات وتطلعاتها. هذا الموقع يُفترض به أن يتيح لها "مرونة" تتكسب بها في الاتجاهات الثلاثة، لكن كما نعلم فإن مساحة اللعب معدومة عملياً مع تلك القوى التي تتفوق عليها من كافة النواحي، وأولها البراغماتية التي يشتد بروزها بموازاة صراع النفوذ بين الكبار في سوريا.

لا شك في أن الميليشيات الكردية تلقى قبولاً غربياً بالمقارنة مع نظيراتها العربية التي غلب عليها طابع الأسلمة، إلا أن تميزها لا ينجيها من التعامل معها كأداة للاستثمار على مثال بقية القوى السورية وفي مقدمها قوات الأسد ومخابراته. وقد رأينا حقيقة موقف الغرب، مثلما رأينا حقيقة موقف موسكو والأسد، عندما اجتاحت القوات التركية عفرين. ورغم أنها لم تكن مشمولة بمظلة القوات الأمريكية، بل كان فيها تواجد روسي سُحب قبيل الاجتياح، فإن العملية التركية ما كانت لتحدث لولا وجود موافقة غربية عامةً وأمريكية خاصةً. 

بعد انطلاق الثورة استثمر الأسد في تمكين الميليشيات الكردية من السيطرة على مناطق واسعة ضمن اعتبارين، الأول هو عدم سيطرة فصائل المعارضة عليها، والثاني إزعاج الجانب التركي الذي راح يعبّر عن دعمه للثورة، ومع طور العسكرة صار من أهم خطوط إمداد الفصائل. لم تكن هناك مغامرة من قبل الأسد في استثماره، ففي المحصلة يعلم أن الموضوع الكردي تحكمه تفاهمات إقليمية ودولية، وإذا قُيّض له البقاء لن يخسر شيئاً لقاء الدور الذي أدوه. وعندما أتى الاحتلال الروسي لم يأت بجديد فوق التصور الأسدي، فبقي التعامل مع الميليشيات نوعاً من الاستثمار في العلاقة المعقدة التي تربط موسكو بأنقرة، وكانت تجربة عفرين أفضل مثال.

لم تحقق الميليشيات إنجازات مستدامة للقضية الكردية في سوريا، وليس هناك وعد من أحد حلفائها بمنحها مكافأة على المدى المتوسط أو البعيد. في المقابل، قدّم الأكراد آلاف الضحايا في الحروب التي خاضتها، ولم يسلموا من الأضرار البالغة على غرار بقية السوريين، باستثناء عدم تعرضهم لإجرام الأسد وحلفائه. الأمان النسبي الذي تمتعت به مناطق سيطرتها لم يمنع تدفق اللاجئين في اتجاه الخارج، لأن نموذج الحكم الذي فرضته بدا شبيهاً جداً بالنموذج البعثي. وحتى تسمية "قوات سوريا الديموقراطية" وضم عدد قليل من خارج المكون الكردي أتى شبيهاً بنموذج "الجبهة الوطنية التقدمية" التي رأسها حزب البعث. ذلك من دون الخوض في الانتهاكات التي سجلتها في حق معارضين أكراد، وما يفوقها حجماً ونوعاً في حق أبناء المنطقة من غير الأكراد.

مع تكرار التأكيد على تفوق الميليشيات الكردية على نظيراتها العربية والإسلامية، حتى في العلاقة مع مجتمعها الكردي المحلي، فإن شعبيتها لدى الأكراد حربية في المقام الأول، وموجهة ضد ما يُعتبر عدواً خارجياً أكثر مما هي مبنية على قناعة بنهجها. عدم تقديم نموذج مقنع خارج منطق الحرب يجعل منها أكثر قابلية للاستثمار، وهي بذلك تتقاطع مع العديد من نظيراتها العربية أو الإسلامية التي تحولت إلى أدوات خارجية، وما يسهّل التحول الانقطاعُ بينها وبين الداخل والتعامل مع الأخير وفق منطق التسلط. الصفة التمثيلية تتوارى بالتناسب مع غلبة ما هو خارجي، هكذا مثلاً باتت صورة الميليشيات الكردية في أحسن أحوالها تقتصر على قيامها بمحاربة داعش، لكنها لن تكون صورة مؤثرة عندما تجتمع القوى النافذة من أجل تقسيم مناطق النفوذ.

العامل الآخر الضاغط الذي ينافس تقاسم النفوذ يتعين في موضوع اللاجئين، إذ من أولويات الغرب وإدارة ترامب الذي لا يخفي كراهيته للمهاجرين أن يُحل جزء من قضية اللاجئين على الأراضي السورية، بصرف النظر عما يعنيه ذلك من تغييرات ديموغرافية. مع تراجع الحديث عن تسوية في سوريا، بعدما كان الغرب يروّج مثلاً لتسوية في عام 2021 تقضي بانتخابات لا يشارك فيها بشار أو يخسرها، فإن ربط قضية اللاجئين بالتسوية لم يعد موجوداً. هنا أيضاً يحضر مثال عفرين، حيث هُجّر إليها أهالي الغوطة، كنموذج يمكن تكراره، أو حتى تكراره بحساسية أدنى في مناطق شرق الفرات التي تحتوي أغلبية عربية، وهي للأسباب الديموغرافية ذاتها بمثابة خاصرة رخوة للميليشيات الكردية. هذا الاحتمال، رغم الخلاف الأمريكي التركي على عمق المنطقة العازلة، سيقصر سيطرة الميليشيات الكردية الفعلية على جزء من مناطق الجزيرة السورية، بعد تلك الطموحات المعلنة للسيطرة على الشمال السوري كله، ومع التنويه ببقايا وجود هناك لمخابرات الأسد بموافقتها.

على غرار مثيلاتها في سوريا، لا يُنتظر من الميليشيات الكردية الإقدام على مراجعة تجربتها، فجرياً على العادة سيُجيَّر أي تقهقر لتعزيز المظلومية، وستستمر المراوحة بين وهم الانتصار ووهم الانتقام. في المساحة بين الوهمين متسع لاستثمار خارجي جديد.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024