القديس مار مخلوف

مهند الحاج علي

الإثنين 2020/05/18
ظهر رامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد أو "القديس" كما يحلو لبعض السوريين تسميته، في فيديو ثالث. والفيديو الأخير لم يأت خارج السياق، بل حمل في طياته تذكيراً بالـ"الأعمال الخيرة" لشركة "سيرياتيل" وبعض الحكم والأمثلة المنطقية (قُل البديهية) مشابهاً للتسلسل المنطقي الضحل في خطابات الأسد، وتكشف عن العمق الفكري للعائلة، من قبيل "لا أولاد من دون وزوج وزوجة" و"مقابل النهار، هناك ليل" "وموجب وسالب" وغيرها. 

لكن هذا الفيديو كان أوضح في إظهار فوقية مخلوف في التعاطي مع الأسد. هو رجل الأعمال الذي يفهم بقطاعه، في حين يعجز الأسد وبقية النظام عن استيعاب عالم الأعمال. هم من مستوى آخر، يُضطر رامي الى تبسيط الأمور لهم، ويُظهر نفسه عاجزاً عن فهم المنطق المتحكم بهم. كيف يطلبون حصة من مجمل مدخول الشركة، وليس من أرباحها؟ من هذا المنطلق، رامي أبلغ النظام ورأسه بأن الشركة ستُفلس وتنهار لو استقال من رئاسة مجلسها، وستُسرّع في انهيار الاقتصاد. وفي طيات كلامه أيضاً، اتهام للنظام بتحمّل المسؤولية عن هذا الانهيار، نتيجة سلوك طائش، والأهم عدم معرفة كتلك التي يحملها هو.

هذه الفوقية ناجمة عن طبيعة هذه العلاقة بين آل مخلوف والأسد، وتاريخها وخلفياتها. وفقاً لمقال لكاتب مجهول في موقع مركز السياسة العالمي (Center for Global Policy)، الندية الظاهرة في خطابات المخلوف لها بعض الجذور التاريخية، وتُوحي بتنافس سياسي بين عائلتين تنتميان الى طرفين حزبيين هما "الحزب القومي السوري الاجتماعي" و"حزب البعث العربي الاشتراكي". 

ولكن قبل الخلاف السياسي، يبرز فارق اجتماعي بين العائلتين. اعترض كبار عائلة مخلوف على زواج أنيسة بحافظ الأسد عام 1958. ذلك أن آل مخلوف من طبقة ملاك الأراضي، وكانت ابنتهم أنيسة مدرسة وخريجة إرسالية فرنسية في بانياس، في حين يتحدر حافظ من عائلة فلاحين فقيرة. كان الصعود الاقتصادي لرامي مخلوف، برعاية عمته أنيسة، ويبدو أن حظوظه تراجعت بعد وفاتها عام 2016، كما يُوضح المقال. وقبل رامي، كان والده محمد محظياً في عالم الأعمال في سوريا منذ تولي الأسد الرئاسة، اذ جنى ثروة من إدارة مؤسسة التبغ والتنباك والبنك العقاري السوري.

كان زواج أنيسة خارج المألوف سياسياً أيضاً، إذ أن لعائلة مخلوف تاريخاً مع "الحزب القومي"، وقد شارك بديع مخلوف  (ابن عم محمد والد رامي) في اغتيال نائب رئيس الأركان السوري (المتعاطف مع "البعث" حينها) عدنان المالكي عام 1955 (عبد المنعم الدبوسي شارك مع مخلوف في عملية الاغتيال، وأعدمتهما السلطات السورية حينها). بحسب التقرير عينه، أودعت أنيسة وشقيقها محمد السجن نتيجة الاغتيال.

الحقيقة أن مراجع أخرى مثل كتاب عبد الله حنا عن المرشدية (صادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، يشير إلى تاريخ أعمق للعائلة مع الحزب القومي. وفقاً لهذه الرواية، كان جميل مخلوف، أستاذ مدرسة من مواليد 1920 (تقريباً من جيل أنيسة المولودة عام 1930)، وراء انتشار الحزب خلال أربعينات القرن الماضي في ريف جبلة وفي قريته بستان الباشا التي باتت تُعرف باسم "بستان سعادة". جميل أودع السجن في زمن الشيشكلي منتصف الخمسينات، ثم خرج، وفر إلى لبنان بعد اغتيال المالكي.

اللافت أن مقال المركز يشير الى استثمار رامي منذ عام 2003 في الحزب، وقيادته من خلف ستار، وفصله عن الفرع اللبناني، وتشكيله بعد الحرب ميليشيا باسم "البستان". من هذه البوابة، حلّ الأسد الحزب القومي في سوريا نهاية العام الماضي، ومن بعده ميليشيا "البستان"، بالتزامن مع بدء التوتر مع رامي. في المقابل، استدعت صفحات موالية لمخلوف صورة لأنطون سعادة مع مناصرين من آل مخلوف، وقصة بطولية لإعدام بديع، وكأن لسان حالها إظهار التناقض بين العائلتين.

لن يُهدد خلاف الأسد ومخلوف بإنهاء حالة التماسك العلوي وراء النظام، كما يُوحي المقال، لكنه يُنهي الاعتماد التاريخي على هذه العائلة في مجال الأعمال. والأهم من ذلك كله أننا أمام مصدر يعلم خفايا فساد السنوات الماضية، وقد يدفعه التوتر الحالي الى كشف شبكات الاعمال المرتبطة بالنظام وتجار الحرب فيه وفتح صفحات مطوية. وهنا قد تجتمع فضائح الفساد وآلياته، مع فظائع التعذيب الواردة في أدلة قيصر، لتكتمل صورة لا شك أنها قبيحة جداً جداً.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024