ضحايا عدم الرد الإيراني

عمر قدور

السبت 2020/01/11
لم يكن الرد الإيراني، بقصف ناعم لقاعدتين أمريكيتين، غير متناسب فحسب مع القصف الأمريكي الدقيق والفعال الذي سبقه. الرد الإيراني كان أشبه بالمهزلة قياساً إلى الدعاية الإيرانية ذاتها، وقياساً إلى الوعيد الذي أُطلق من قبل طهران وتابعيها هنا وهناك. أول ما يجوز قوله أن طهران كانت بغنى عن التركيز على دور ومكانة سليماني، ليظهر الانتقام له بخساً جداً، وربما يرسل إشارات ليست في صالحها، لا لخصومها فقط وإنما أيضاً لرجالاتها الذين يشغلون مواقع حساسة في الداخل والخارج.

قد يبدو سهلاً "نظرياً" أن يبتلع جمهور الممانعة هذا الاكتفاء بالرد، لأنه جمهور مطواع، وقد يمنح عدم الرد الأمريكي على القصف الإيراني الرمزي نوعاً من السلوى لمن يريد تأويل الاكتفاء الأمريكي بتخوف واشنطن من مواجهة غير محدودة. لكن تصريح ترامب الذي تلى القصف الإيراني حمل رسالة مزدوجة يجدر قراءتها جيداً، فهو من جهة أنهى مناخ التصعيد العسكري، ومن جهة أخرى أعلن عن رزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية التي ستُفرض على طهران. وإذا أخذنا حصيلة الجولة الأخيرة فهي اغتيال سليماني "بكل ما نُسب له من تأثير واعتبار"، مع فرض رزمة جديدة من العقوبات، مقابل صفر من الخسائر الأمريكية.

لعل فرض عقوبات جديدة هو أكثر إيلاماً من أي ضربة عسكرية أمريكية جديدة، فالتصعيد المتدرج الذي بدأته طهران أتى في الأصل رداً على العقوبات الأمريكية التي أعقبت انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي. كما نذكر، استهلت طهران التصعيد بالعديد من الهجمات على منشآت سعودية، منها آرامكو، وتوالت تهديداتها لحرية الملاحة في الخليج مع ما يعنيه ذلك من آثار على تدفق النفط، لتأتي أخيراً مهاجمة السفارة الأمريكية من قبل وكلائها في العراق. الأنشطة الإيرانية كانت نوعاً من اختبار لعزم ترامب، وكسبت فيه طهران عندما لم يتحرك للدفاع عن الحلفاء في المنطقة، الأمر الذي شجعها على محاولة فرض قواعد اشتباك جديدة تتضمن التحرش المباشر بالوجود الأمريكي.

ما بات واضحاً أن ترامب أعاد طهران إلى القواعد السابقة، أي أنها لن تكون قادرة على التعرض المباشر للوجود الأمريكي تحت طائلة التهديد بضربات أمريكية أقسى. نتنياهو كان واضحاً بدوره، فهو قد أنذر حكام طهران بردّ قاس، في حال فكروا بتوجيه ضربة عبر حزب الله ليتم الترويج لها كاستكمال لثأر سليماني. باختصار، على طهران تحمّل العقوبات القديمة والجديدة من دون تصعيد جديد تستخدمه في التفاوض، لأن المطلوب في عهد ترامب مختلف عمّا كان مسموحاً به في عهد أوباما.

ما سبق لا يعني أن حكام طهران سيتخذون وضعية السكون، وأن اغتيال سليماني كفيل بتغيير السلوك الإيراني في المنطقة. أول ما سيلعب عليه هؤلاء هو عامل الوقت، إذ من المتوقع أن يحاولوا قدر الإمكان تحمّل ما تبقى من ولاية ترامب بأقل الخسائر الممكنة. ما يدعم تصورهم هذا رد فعل قيادات الحزب الديموقراطي، ومنها المنافس المحتمل جون بايدن، حيث أجمعت تصريحات الديموقراطيين على لوم ترامب، بل لم يتطرق أحد منهم لا إلى مهاجمة السفارة الأمريكية، ولا إلى الفظائع التي ترتكبها الميليشيات الإيرانية في عموم المنطقة والتي كانت تعمل بإشراف القتيل. إذاً، هناك أمل بأن تأتي الانتخابات الأمريكية بعد عشرة أشهر برئيس ديموقراطي يعيد نهج أوباما، وربما يعود إلى الاتفاق النووي الذي أبرمه الأخير من دون قيود إضافية تُذكر.

الرد الإيراني المستعجل والمتهافت كشف فيما كشف عن عدم استعداد طهران لوجستياً لمواجهة مباشرة مع واشنطن، أو استبعادها هذه الفرضية من أساسها. الترسانة العسكرية التي يُلوَّح بضخامتها وفعاليتها، بصرف النظر عن تواضعها بالمقارنة مع القوة العسكرية الأعظم، هي معدَّة وموجّهة لأهداف أخرى في المنطقة تتناسب مع المشروع التوسعي الإيراني، وقد يكون بعضها الآخر معدّاً للاستخدام كخيار مدمّر في المنطقة، فقط إذا تعرّض النظام الإيراني لتهديد وجودي.

الرد المدروس المتمهل سيأتي، وسيكون ضمن قواعد الاشتباك التي لم تفلح طهران في تغييرها، أي في الساحات التي لا تعطي ترامب أية ذريعة مباشرة. لقد رأينا مثالاً على ذلك من قبل بعدم رد طهران على الغارات الإسرائيلية التي استهدفت ميليشياتها في سوريا، وكيف تولت أذرعها الإعلامية تسويق الرد عليها بأنه يأتي بضرب "عملاء إسرائيل" السوريين. هذا النوع من التحايل على المواجهة المباشرة سيكون حاضراً بقوة، لضرورته لإقناع جمهور الممانعة بعد العرض الهزلي الأول، ولضرورته التي تمس ما أصبح جوهر النظام الإيراني، أي تباهيه أمام الشعب الإيراني بمشروعه الإمبراطوري تبريراً للتدهور الاقتصادي المريع.

ساحات التحرك الإيراني جاهزة، ولن تكون هناك حاجة لفتح جبهات إضافية، والعراق بدأ بالتحول إلى ساحة مواجهة ستكون صعبة على العراقيين. الضحية الأولى للمواجهة هي الثورة العراقية التي اندلعت على الضد من الهيمنة الإيرانية، وكانت قوات الحشد الشعبي قد بدأت مواجهتها بدموية وبإشراف شخصي من قاسم سليماني. الآن، ثمة دافع أكبر للاستمرار بما كان يفعله سليماني، والعراقيون الذين انتفضوا سيكونون إما أمام خيار الصمت والعودة إلى بيوتهم أو التعرض إلى منسوب أعلى من البطش، والهدف هو استعادة الهيمنة أقوى مما كانت عليه، وعلى نحو خاص إعادة شيعة العراق إلى بيت الطاعة بالترهيب وباللعب على وتر العداء لأمريكا.

لبنان أيضاً قد يكون ساحة للتصلب الإيراني، فحاجة حزب الله لتأكيد سطوته باتت أشد مما كانت عليه قبل اغتيال سليماني. وإذا كانت حساسية الوضع اللبناني تمنع مواجهة دموية على النمط الذي يدفع العراقيون ثمنه فهي لا تمنع المضي أقوى بتجاهل مطالب المنتفضين اللبنانيين، أو بالأحرى معاقبتهم بحكومة معزولة خارجياً في وضع تشتد فيه الحاجة إلى مساعدة الخارج للخروج من الانهيار الاقتصادي. تهديد زعيم حزب الله بأن الدولة قابلة للإفلاس من دون أن يتأثر حزبه قد يوضع في التنفيذ لحاجة طهران إلى هذه الورقة، فمن البوابة اللبنانية تأمل بوساطة أوروبية "فرنسية تحديداً" بينها وبين واشنطن. من المستبعد أن يسعى حزب الله إلى فتح مواجهة مع إسرائيل، لتحريك مياه التفاوض، الجبهة المرشّحة لهذا الاحتمال بقوة هي جبهة غزة، ولن تُفتح بهدف التفاوض وإنما بهدف تسجيل نقاط معنوية "فولكلورية" لمحور الممانعة، والفلسطينيون سيدفعون ثمناً باهظاً لأي استعراض مقبل.

بالطبع لا ننسى الساحتين السورية واليمنية، حيث تنشط ميليشيات إيران منذ سنوات، ومن المتوقع أن تصعّد نشاطها العسكري في اليمن على نحو خاص، وأن تتصلب طهران سياسياً في سوريا لأن تحركها العسكري محكوم بالتفاهم مع موسكو. في الأشهر العشرة التي تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ستستخدم طهران كافة أوراقها في المنطقة، مع الحرص على أن يكون الضحايا فقط من أبنائها، والتسويق لأي فعل على أنه ضمن ثأرها لسليماني، وقد يصحّ هذا حقاً ما دام ضحايا القتيل هم أنفسهم سواء كان حياً أو ميتاً. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024