الغضب والتظاهر:خريف العرب

ساطع نور الدين

الأحد 2019/10/06
ما زالت التحركات الشعبية، محزنة في هزالها وفي تعبيرها عن فورات غضب عابرة، تقطع الشوارع أمام حركة المرور، ولا تفتح الطرق أمام حركة التغيير. عفويتها وخروجها على الاطر السياسية والنقابية التقليدية، هما مصدر قوتها، وضعفها في آن معاً. كأنها حالة غريزية، موسمية، تحفزها علامات الخريف، عندما يكتشف ذوو الدخل المحدود أنهم بحاجة الى كسوة الشتاء ومونته فلا يجدونهما، وعندما يتأكدون أن دولهم ومجتمعاتهم لم توفر لهم الأمان والاستقرار.

هي ليست سيرة لبنانية، أو توصيفاً لمشهد لبناني خاص. في أكثر من بلد عربي، لا سيما تلك البلدان التي شهدت الربيع، وإخفاقاته، تكاد التحركات المطلبية، المعيشية تحديداً ، تصبح هي الحدث الوحيد، وهي الانجاز الكبير، الذي سبق أن حققه جيل العام 2011 -2013، عندما خرج منادياً بالحرية والعدالة الاجتماعية، ولم يعد الى بيته!

حق التظاهر، وهو واحد من أهم ما حققه الربيع العربي في تلك الاعوام الثلاثة التاريخية، قبل ان ينهزم شر هزيمة، ما زال محفوظاً في لبنان، حتى اللحظة على الاقل، وما زال ممكناً في تونس، وما زال متاحاً في الجزائر، وما زال قائماً في السودان، كما في مصر.. وقد صار الآن تقليداً في العراق، ويمكن أن يتجدد في سوريا قريباً، حيث يواجه الجميع، موالين ومعارضين، تحدي دفع الأثمان الباهظة للحرب، وأكلافها الثقيلة على الحياة اليومية، أكثر من الحياة السياسية والامنية.

لكنه حق يمارس اليوم خارج تقاليد التظاهرالمعروفة، وتتحمل مسؤوليته مجموعات صغيرة، لم تجتمع وتخطط وتنظم وتحدد ما هو أهم من المكان والزمان، وهي تتحرك بحماسة شديدة تفيض على مساحة البلاد، بلا أي رابط تنظيمي، يصيغ أهداف المتظاهرين ومطالبهم، ويتجاوز الشعارات الطوباوية، المستمدة من ثقافة التلفزيون والمخصصة للعرض على شاشاته، مثل شعارمكافحة الفساد الذي يجهل الفاعل علناً، ويدعوه ضمناً الى التدخل للاصلاح والتغيير.

الحالة اللبنانية نموذجية، لكنها محبطة الى حد بعيد. عقود مرّت على الغضب الشعبي العابر للطوائف والاحزاب والتشكيلات السياسية والنقابية الميؤوس منها، من دون ان ينتج هذا الغضب جديداً، في اللغة والخطاب والتنظيم والاسلوب والتفكير. وهو الى حد ما حالُ مصر وتونس والجزائر والعراق أخيراً ، التي لا تعلنها ثورة تنادي لكنها تعبر عن موقف حاسم من جميع البنى التقليدية، المتحكمة بالسياسة والمعيشة، وترفع  صوتها بالرفض لجميع أشكال السلطة السياسية والدينية وأدواتها الراهنة.

ما جرى في تونس كان مؤشراً واضحاً ، ميزته الوحيدة أنه لم يكن بحاجة الى الشارع بوجود صناديق الاقتراع حيث تم الانقلاب على الطبقة السياسية. ما يحصل في الجزائر كان ولا يزال يمثل تحدياً جدياً للشارع العاجز منذ أشهر عن تقديم بدائله الخاصة، ما يهدد بعودة شرائح واسعة من الجمهور الى بيت الطاعة العسكري، تحت عنوان حفظ الاستقرار. ما شهده السودان من إنتفاضة شعبية أسفرت عن الاطاحة برئيس عاجز والاستعانة بكبار ضباطه ورموزه وتقاسم السلطة معهم، لا يمكن ان يعتبر تغييراً قبل كتابة الدستور الجديد والقوانين المنبثقة عنه. أما مصر فإنها قدمت مرة أخرى الشهر الماضي مثالاً جديداً على أن أفق الحرية والعدالة الاجتماعية ما زال مقفلاً.

في العراق، ثمة تفاصيل إضافية على ذلك المشهد العربي البائس.الحراك الشعبي يطلق مشاعر الغضب أكثر مما يحمل مشاريع التغيير. ميزته أنه يعيد بعض التماسك الى الاجتماع العراقي، لكن الحدود غير المرسومة وغير المعترف بها للوطنية العراقية، تغري الخارج بالعودة الى التدخل، وتعزز الفكرة القائلة أنه لا أمل بنجاح الشارع العراقي في تغيير سلوك النظام ورموزه.. إلا إذا تغير سلوك النظام الايراني الذي يشارك الآن في قمع المحتجين العراقيين على فساد سلطتهم، كما لو أنهم محتجون إيرانيون في شوارع طهران على فساد سلطتهم الخاصة.

الغضب شعورٌ صحي. والتظاهر حقٌ طبيعي، وإنجازٌ عربي كبير. لكن البقاء في ذلك الحيز الضيق ليس وعداً مهماً.         

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024