"فينيقيا"من دون مرفأ

بسام مقداد

الخميس 2020/08/13
نقلت نوفوستي إلى الروسية مقالتي الأسبوع الماضي عن كارثة تفجيرات ميناء بيروت ، وتبع النص الروسي 14 تعليقاً من القراء الروس ، كان لافتاً من بينها تعليق وقعه صاحبه بإسم جامعة سانت بيتربورغ ، لا أعتقد أنه ينطق فعلياً بإسم أعرق جامعات روسيا ، التي أسسها القيصر بطرس الأكبر في العام 1724 . واللافت في التعليق ، بأنه جاء مداخلة مطولة تخطى حجم التعليقات المعتادة في مثل هذه الحالات ، وكان بمثابة تقويم متكامل للوضع الراهن في لبنان إثر الكارثة ، كما يراه الكاتب . يرى الكاتب أن لبنان دولة مفلسة في الوقت الراهن ، وتبلغ ديونه "عشرات الياردات" من الدولارات ، ويرفض صندوق النقد الدولي إقراضه بضغط من الولايات المتحدة ، تحت الحجة التالية : طالما لم يعمد الساسة اللبنانيون إلى طرد الأحزاب الشيعية وحزب الله الموالي لإيران من أجهزة هذه الدولة ، فلن تكون هناك أية قروض . لكن ساسة لبنان لا يستطيعون القيام بذلك ، حتى لو كانوا يريدونه ، لأن الأحزاب الشيعية وحزب الله لا يدخلون في جميع أجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية فحسب ، بل ويمثلون قوة مؤثرة على المستوى المحلي والإقليمي ، قوة مسلحة حتى الأسنان لم تخش حتى الآن الحروب المتعددة مع إسرائيل ، "فما الذي سيجعلها تخشى الموارنة؟" . 

يمضي الكاتب في تعليقه المطول ، الذي لم نكن لنتوقف عنده دون سواه ، لو لم يكن بإسم تلك الجامعة المرموقة ، التي لم تسجل في موقع نوفوستي اي اعتراض أو نفي لهذا الكلام . ويقول بأن حرمان الشيعة من مثل هذه الحقوق وهذه السلطة والبيزنس والأصول في لبنان ، سوف يعني حرب إبادة  أهلية حتمية ، تستدعي تدخلاً مسلحاً من قبل قوى ثالثة ، سوف تكون في عدادها  ، بالتأكيد، الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران ، بعد أن خرجت سوريا من هذه القائمة للأسباب المعروفة . وقد يكون التفجير من تدبير قوة ثالثة ، تعمدته بغية دفع سلطات لبنان المفلس إلى حسم أمرها بشأن الشيعة وحزب الله . وبما أن هذه السلطات عاجزة عن القيام بذلك ، فسوف تتولى سفن قوة ثالثة وطائراتها القيام بالأمر . 

لكن إيران ، برأي الكاتب ، لن تسمح لأية قوة بسحق الشيعة اللبنانيين ، لأنها تدرك جيداً بأن شيعة لبنان هم خط الدفاع الأول في الصراع ضد الولايات المتحدة وإسرائيل . ملالي إيران يدركون جيداً أيضاً بأنهم سوف يحاولون أولاً نزع "تشيع" لبنان ، ثم سيأتي دورها هي نفسها ، وإلا لن يكون لتدخل القوة الثالثة أي معنى . لكن الكاتب يعتقد بأن غزو لبنان لن يحصل قبل الإنتخابات الأميركية ، بل سيتم ، حتى ذلك الوقت ، تشديد الضغط السياسي والإقتصادي والعسكري على لبنان . ويختتم الكاتب مطولته بتحذير الولايات المتحدة من مغبة الإقدام على ما افترضه هو نفسه  من النية بغزو لبنان لتجريد الشيعة وحزب الله مما هم عليه في لبنان راهناً ، ويذكر الساسة الأميركيين بتفجير مقرات قوات المارينز الأميركيين والقوات الفرنسية في بيروت العام 1983 . 

لا يجدر فهم مقاربة الكاتب للكارثة اللبنانية ، بأنها انحياز لموقف الشيعة وإيران ، بل هي تندرج في السياق العام لموقف إعلام الكرملين ، من النظر إلى هذا الحدث ، كما إلى سائر الأحداث الأخرى ، على خلفية الصراع مع الغرب . فلم تر وكالة الأنباء الروسية "vesti.ru" في مظاهرات إحتجاج اللبنانيين على مسؤولية السلطات اللبناينة عن جريمة تفجير المرفأ ، سوى كونها إحتجاجات موالية للغرب . فقد نشرت في 9 من الشهر الجاري تعليقاً على الكارثة بعنوان "الإحتجاج في لبنان ينتقل إلى أيدي القوى الموالية للغرب" ، قالت فيه بأن انفجار نترات الأمونياك في مرفأ بيروت أثار إنفجاراً إجتماعياً ، سرعان ما تحول إلى فوضى ، يرى فيها كثيرون بأنها محاولة إنقلاب . وبعد أن تتحدث الوكالة ، ليس عن قمع القوى الأمنية الدموي للمتظاهرين ، بل عن قيام المحتجين برشق هذه القوى بالحجارة والأسهم النارية ، تقول بأنه أصبح من الممكن القول بأن الإحتجاج السلمي ينتقل إلى أيدي القوى السياسية الموالية للغرب وللسعوديين . وتقول بأن هدف السياسيين المحليين هو تخفيض نفوذ حزب الله ، بينما هدف الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي هو إشعال صراع طائفي مفتوح ، وليس لدى لبنان في هذا الوضع أية حظوظ للتوحد ، طالما أن البلاد هي نقطة تقاطع لمصالح دولية . ولم تفعل زيارة الرئيس الفرنسي الإنسانية سوى إثارة الإضطرابات ، حيث ربط ماكرون مساعدة لبنان بالإصلاحات السياسية . 

صحيفة الكرملين بدورها ، لم تخرج عن السياق العام لنظرة إعلام الكرملين إلى المحتجين اللبنانيين وتظاهراتهم ضد جريمة السلطة في تفجير المرفأ ، وجمعت في نص واحد عدداً من مدونات كبار المسؤولين في إعلام الكرملين في التعليق على الكارثة اللبنانية . فقد نقلت الصحيفة عن رئيسة تحرير العملاق الإعلامي الروسي RT مارغريتا سيمونيان قولها ، بأنه ما يزال يمكن أن يكون هناك أحياء تحت أنقاض بيروت ، يجب إنقاذهم ، ورفع الركام ، وإعادة بناء المدينة ، "لكن كلا ، فمن الممتع أكثر إحتلال وزارة الخارجية ، وإضافة مصابين جدد للمستشفيات ، التي تعمل فوق طاقتها" . كما تنقل عن رئيس تحرير إذاعة "موسكو تتكلم" رومان بابايان وصفه لسلوك المشاركين في أعمال الإحتجاج بأنه "منتهى اللامسؤولية والأنانية" ، وافترض بأن المحتجين " يتراءى لهم بأنهم في ظل الكارثة ، قد يحصلون على شيء ما" ، ويستغرب بأن رئيس وزراء لبنان يبحث عن مساومة مع "هؤلاء الناس" ، في حين أن على الحكومة الإهتمام بأمور أخرى الآن . وتنقل الصحيفة عن مراسل صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" العسكري قوله "إلى أي مدى يجب أن يكون المرء حيواناً ، حتى يشارك هذه الأيام في بيروت بمظاهرات ، تتحول إلى فوضى" . ويخاطب المتظاهرين بالقول "رجال الإنقاذ من جميع أنحاء العالم يرفعون أنقاضكم ، الأطباء يجرون العمليات لأطفالكم ، وأنتم ، بدل أن تنشئوا سلسلة بشرية لرفع الركام ، تنخرطون في معارك شوارع " ، ويقول بأنه لم ير امراً مشابهاً سوى في هايتي بعد الزلزال . ويضيف هذا المراسل قوله "العالم كله منهمك في الإنقاذ ، والسكان المحليون فقط ينهبون . هذا ما يجري الآن في شوارع بيروت ، إنها عقلية النهب" . 

رئيس معهد الشرق الأوسط المستشرق يفغيني ساتانوفسكي ، وفي مقابلة مع صحيفة الكرملين عينها ، يعبر عن القناعة المقيمة في عقلية النخب القومية الروسية ، والتي تتشارك فيها مع قناعة النخب البعثية ، بأن لبنان دولة "مصطنعة"، لم تتشكل إلا إسمياً كدولة . ويقول بأن السبب الرئيسي للإحتجاجات في بيروت هو الحكومة غير الفاعلة مطلقاً ، التي بلغت عدم فاعليتها العجز عن جمع القمامة ورفع المتفجرات من المرفأ ، مما أبقى لبنان  سنوات طويلة برميل بارود . الكل في لبنان يتهم الكل الآن ، مع العلم أن الجزء الأكبر من المسؤولية يتحمله حسن نصرالله ، لأنه منذ وقت طويل يستخدم نترات الأمونياك لإنتاج المتفجرات ، على قوله . ويقول بأنه ليس من المعروف كيف ستنتهي الإحتجاجات ، فالبعض يقول بأن حسن نصرالله غادر لبنان مؤقتاً ويتواجد في سوريا ، والبعض  الآخر يؤكد بأن حزب الله سيتمكن من تحويل الوضع لصالحه . وليس من المستبعد أن تحصل إستفزازات وعمليات إرهابية ضد الأراضي الإسرائيلية ، حيث كان نصرالله قد سبق أن توعد إسرائيل بتفجير إسرائيل من خلال قصف ميناء حيفا ، حيث يتم تخزين الأسمدة أيضاً . لكنه يؤكد بأن اللاعبين الخارجيين غير معنيين بزعزعة الوضع في لبنان ، لأنهم "سئموا جميعاً من هذا البلد" . 

ويقول ساتانوفسكي ، بأنه من المتعارف عليه أنه ، إذا كان للبلاد علم وشعار وسفارات ومقعد في الأمم المتحدة ، فهذا يعني أن البلد هو دولة سوية قائمة . لكن في حالة لبنان لا شيء من هذا القبيل مطلقاً . لم يتركوا شيئاً إلا وقاموا به في سبيل أن يكون لبنان دولة ، لكن عبثاً ، وبقي لبنان "دولة فاشلة" ، برأيه . 

أحد المواقع الأوكرانية الناطق بالروسية ، تذكر فينيقيا في حديثه عن الكارثة اللبنانية ، وقال بأنه "لأول مرة منذ أيام فينيقيا لن يكون هناك ميناء في بيروت" .

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024