أحزاب السلطة لن تنتحر

مهند الحاج علي

الجمعة 2020/07/17
"هذه الحكومة هي الأسوأ" عبارة تتردد على ألسن الأوساط الدبلوماسية الغربية والعربية. وهذا "السوء" مرده ليس الفشل فحسب في إدارة الملفات، بل التلكؤ في اتخاذ القرارات، والتصرف وكأن أزمة لم تقع، أو أن الوقت ليس عاملاً مهماً. يبرز شعور بالضيق في المجتمع الدولي حيال هذه الحكومة والطبقة السياسية خلفها، وكيفية ترك الوضع يتدهور دون الاتفاق على أدنى خطوات للحلحلة. سيتضح ذلك في تبدل اللهجة والنبرة المستخدمة في التحدث الى المسؤولين اللبنانيين.

وهذا الضيق الأوروبي منفصل عن قضية "حزب الله" وسلاحه وضرورة الحياد. صحيح أن الدول العربية المانحة لن تُبادر الى إنقاذ لبنان في ظل انخراطه في سياسات معادية لمصالحها، لكن، بالنسبة للجانب الأوروبي، هناك هامش غير سياسي للتحرك هنا عبر اجراء إصلاحات جذرية بدءاً من قطاع الطاقة ومكافحة التهريب، وانتهاء باستقلالية القضاء وتوزيع خسائر القطاع المصرفي بشكل عادل من أجل الحصول على دعم من "صندوق النقد الدولي". والدول الأوروبية (ومنها فرنسا) المعنية ببقاء لبنان مستقراً بالحد الأدنى دون التفكك والانزلاق في دوامة العنف وتصدير الناس بالمراكب، كما فعلت الحرب السورية، لا تزال تأمل بتغيير. وهذا يعود في جزء منه إلى سوء تقدير أوروبي لآثار أي إصلاحات على التركيبة السياسية-المالية المتحكمة بالبلاد منذ اتفاق الطائف.

بيد أن هذه الخطوات الإصلاحية المرجوة، مُستحيلة حكماً. كيف يُقدم المستفيدون من مؤسسات الدولة المنخورة بالثقوب، على إقفال مصادر تمويلهم وأحزابهم وشبكات مصالحهم. من شأن هذا "الإصلاح" أن يُنهي زعامات تاريخية بأمها وأبيها. من أين يأتي "الزعيم" بآلاف الوظائف لأتباعه في حال تفعيل "مجلس الخدمة المدنية" وضمان استقلاليته؟ كيف تُسدد الأحزاب اللبنانية رواتب مئات المتفرغين في صفوفها، ومساعدات عائلات شهدائها وجرحاها لولا أموال الدوائر وصفقات الوزارات الخدماتية؟

الواقع أن موازنات الأحزاب اللبنانية أكبر من بعض تلك الحاكمة في أوروبا. التفرغ الحزبي في لبنان نسبة لعدد السكان، غير واقعي، وهو يرتبط جذرياً بالعلاقة بين أحزاب السلطة ومؤسسات الدولة، وعمليات الفساد الجارية فيها. 

لذلك، تُعتبر حزمة الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة، سياسية في المقام الأول. ذاك أن تُوقف الأحزاب اللبنانية فسادها في الدولة، هو انتحار سياسي. بكلام آخر، في حال أقدمت السلطة الحالية على اصلاح القضاء ومؤسسات الدولة ووضع آليات حقيقية لمكافحة الفساد وضبط الانفاق وتفعيل الهيئات الرقابية وضمان استقلاليتها، لن تُحكم الأحزاب السياسية السيطرة على أتباعها وطوائفها كما تفعل الآن. وهذا يعني أيضاً أن الزعيم اللبناني بأحجامه المتفاوتة، من البيك ذي الجذور "التاريخية" في الزعامة، إلى النائب في زغرتا أو الضنية، لن يتمكن من توريث الزعامة لابنه أو صهره، بالسلاسة التي حصلت فيها هذه العملية المُهينة في انتخابات عام 2018. 

وهذا جدار يقف حائلاً أمام الإصلاح. وتتشكل قناعة لدى أقطاب السلطة بأن السبيل الوحيد أمام انتشال لبنان من أزمته يكمن في مساعدات خليجية لها شروط سياسية. والمفارقة هنا أن المُستهدف بهذه الشروط هو "حزب الله" الذي كان جزءاً من السلطة منذ عام 2005 الى اليوم، ولعب دوراً في تغطية ممارسات حلفائه وشركائه في السياسة، بهدف ضمان شرعية سلاحه في البيانات الوزارية المتلاحقة. وهو نفسه اليوم قد يُشاهد حلفاءه وأصدقاءه يضغطون وينقلبون عليه واحداً تلو الآخر، للحصول على مساعدات عربية غير مضمونة. كان المعنى الخفي للمعادلة الثلاثية هو الفساد أولاً، ثم السلاح.

وإذا لم تتحقق التنازلات، وهو الأرجح، يرى أقطاب هذه السلطة، أن الوصول الى قاع الانهيار أهون من الإصلاح، ولهذا يحضون أتباعهم على الزراعة، ويُوزعون عليهم القمح والخبز. القاع ليس مكاناً سيئاً لأهل الحكم في لبنان. فحين يجوع الناس وتنتفي السياسة ويغيب الأمن، تعود أحزاب السلطة إلى جذورها الأولى: الميليشيات.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024