الطرح الفيدرالي.. المشروع

مهند الحاج علي

الجمعة 2020/10/16
لم يكن رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل صريحاً في دعوته الى الدولة المدنية واللامركزية الإدارية، ذاك أن الطبقة السياسية بما فيها هو نفسه، ما زالت متمسكة بالتركيبة الحالية رغم الدعوات المختلفة والتلويح بمؤتمر تأسيسي أو الفيدرالية. كما ليس هناك جو دولي مواتٍ لهذه النقلة في السياسة اللبنانية، وأي عنف داخلي قد يُصاحبها نظراً للاختلاط الديني القائم في بعض المناطق والتداخل الجغرافي في غيرها.

وفي حال عودة العجلة الاقتصادية إلى الدوران وفتح كوة في جدار الأزمة الحالية، ستختفي هذه الدعوات ونعود الى السياسة كما عهدناها خلال السنوات الماضية، على أن تبرز أصوات جديدة في الانتخابات المقبلة لتزيد النقاش تنوعاً.

بغض النظر عن هذا الاستغلال السياسي للنقاش حول طبيعة النظام، وتطييفه، من الضروري كسر المحظورات في هذا السياق، ومنها تناول اللامركزية الموسعة أو الفيدرالية أو الكونفيدرالية في النقاش العام. صحيح أن هذه الدعوات كانت مترافقة مع عمليات تطهير طائفية وترانسفير سكاني، وهي بالتالي تُهدد السلم الأهلي ومحاولات طي صفحة الحرب الأهلية، كونها تصدر في ظل احتدام الصراع المذهبي. ولهذا نقاش آخر. 

ولكننا اليوم أمام واقع جديد ومعضلة غير قابلة للحل. بعد عقد أو اثنين، سيُحتم الواقع الديموغرافي في لبنان تغييراً على مستوى تركيبة السلطة، من خلال إلغاء الطائفية السياسية والانتقال إلى الانتخابات وفقاً لدائرة واحدة. وهذا الوضع يطرح أسئلة حقيقية حول المستقبل.

وفي صلب هذا النقاش، سؤال ملح، وهو هل تنسجم الصيغة اللبنانية المتعارف عليها، أي التعايش بين الطوائف، مع الإسلام السياسي بصيغتيه السنية (الإخوان) والشيعية (الخمينية)؟ 

هل ينسجم الولاء لإيران ومرشدها الأعلى مع فكرة الدولة؟ كيف بالإمكان التوفيق بين الكفاح المسلح الأبدي مع إسرائيل وخوض حروب بالوكالة خارج لبنان في سوريا وغيرها من جهة، والتنمية وبناء اقتصاد منتج وفاعل، من جهة ثانية؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، علينا التدقيق في الواقع الحالي.

أولاً، يعمل "حزب الله" ضمن منظومة متكاملة على بناء هوية شيعية لبنانية لا تتصالح مع الكيان اللبناني، وتضع في صلبها ولاية الفقيه والمقاومة الأبدية (خارج سياق الدولة). لمثل هذه الهوية علاقة ضدية مع الكيان اللبناني المتنوع طائفياً وعرقياً أيضاً، ولا يُمكن المصالحة بينهما مهما تكاثرت الإدعاءات في هذا الخصوص، سوى من خلال الخروج من عباءة ولاية الفقيه وتحديد اطار سليم للعلاقة مع ايران وأي دولة خارج الحدود اللبنانية.

ثانياً، لا يُمكن التوفيق بين التنمية من جهة، وبين سلاح "حزب الله" ومنظومة الردع القائمة حالياً عنده، والمختلة مع الجانب الإسرائيلي الملتزم بالضربات الاستباقية لمنع الجانب الآخر من بناء قدراته المسلحة. لن يكون لهذا الاشتباك معنى بعد ترسيم الحدود، بل المطلوب الانتقال الى مرحلة جديدة تحتكر فيها الدولة السلاح، ويخضع لإرادة الناس من خلال الانتخابات والمؤسسات. الإسلام السياسي بهويته الضدية والالغائية وباستثنائه المرأة شريكاً فاعلاً في المجتمع والاقتصاد، ليس متصالحاً مع التنمية، بل هو على علاقة تكاملية دائمة مع البؤس والفقر والحرمان.

ثالثاً، وجود التنظيم بهذا الشكل، لناحية الولاية لجهة خارجية وحمل السلاح خارج الدولة، يفتح الباب لنشوء حالات مشابهة عند الطوائف الأخرى. والتهديد التركي هنا ليس مزحة. تركيا في ليبيا وسوريا، وقد تصير في لبنان في أي وقت، بما يُؤسس لتهديد كياني جديد، علاوة على ذلك الذي يُمثله "حزب الله" وعلاقته مع ايران. لذلك، قد يصير لبنان عُرضة لمزيد من الخضات نتيجة هذا الواقع.

رابعاً، الإسلام السياسي لم يكن حاضراً في الميثاق الوطني، ولا عند توقيع اتفاق الطائف. لم يكن عاملاً حاضراً حينها، وهو أصلاً حركة حديثة النشأة. وبالتالي ليس دوره في السياسة ميثاقياً، وعليه تعديل دوره ومبادئه وعلاقاته بالخارج للتوافق مع الميثاقية.

باختصار، ليس الواقع الحالي مواتياً للانتقال الى الدولة العلمانية، ولالغاء الطائفية السياسية. يحتاج لبنان أولاً الى نقلة نوعية، سياسياً واجتماعياً أيضاً عبر إزالة ذيول الإسلام السياسي، وفصل الدين عن الدولة، قبل الغاء الطائفية السياسية. وهذا للأسف ليس مشروعاً سريعاً بل قد يحتاج الى جيل أو جيلين.

وحتى تحقيق هذا التغيير، من المشروع أن تُطالب أي مجموعة سكانية باللامركزية الفيدرالية أو الكونفيدرالية، كحل لهذه الأزمة المستفحلة. هناك من سئم الانتظار والمماطلة والمماحكة وتدوير الزوايا. 

ألم نسأم جميعاً؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024