إنقلاب دبلوماسي في ليبيا

شادي لويس

الثلاثاء 2020/01/14

باستثناء بريطانيا التي مررت معظم نفوذها السياسي إلى الولايات المتحدة، واكتفت بدور الحليف الأصغر وحصة مناسبة من المصالح الاقتصادية، فإن القوى الأوروبية احتفظت بـ"علاقات خاصة" بالكثير من مستعمراتها السابقة. جاء ذلك مدعوماً بميراث لغوي وثقافي كولونيالي، وبنى أقتصادية لازالت معتمدة بشكل كبير على مؤسسات الميتروبول الرأسمالية.

تقع ليبيا، بحسب تلك الترتيبات الودية، في نطاق النفوذ الإيطالي، والذي تجلى في شراكة طويلة الأمد في مجال استخراج النفط الليبي، وتطورت لاحقاً إلى شبه احتكار لعمليات استخراج الغاز في شرق المتوسط. لكن نفوذ إيطاليا، ذات السجل الاستعماري المتواضع والقصير، لم يكن مؤثراً بشكل كبير في أي وقت من الأوقات، ولطالما نافست فرنسا على السحب من أرصدتها. فباريس التي تعتبر أفريقيا باحتها الخلفية، كحق مكتسب، وترى في ليبيا امتداداً طبيعياً لنفوذها في المغرب العربي، لعبت الدور الرئيسي في إعادة تأهيل القذافي ودمج ليبيا في المنظومة الرأسمالية العالمية بعد سنوات من العقوبات الغربية.

كانت تلك المنافسة، المشحونة ببعض التعالي الفرنسي، والقدر نفسه من الشعور بالتعدي من جانب الإيطاليين، مسؤولة بشكل كبير عن عدم قدرة القوى الأوروبية على إتخاذ موقف موحد بشأن القتال الدائر في ليبيا. ففي الوقت الذي دعمت فيه فرنسا قوات حفتر، على الضد من الموقف الرسمي لدول الإتحاد الأوروبي التي تعترف بحكومة السراج، فإن محاولات روما للتأثير في مجريات الصراع، تم التعامل معها باستهانة من الأطراف المتحاربة. فقبل حوالى أسبوع، رفض السراج المضي قدماً في زيارة إلى روما للقاء رئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبي كونتي، بعد علمه بترتيبات لاستقبال حفتر أيضاً. وانتهت محاولات روما للتنسيق مع مصر وإسرائيل واليونان وقبرص للوصول إلى موقف موحد بشأن ليبيا وغاز المتوسط، إلى الفشل. أما سعي ألمانيا الحثيث للعب دور القيادة الأوروبية دبلوماسياً، فلم يُفضِ إلى الكثير في الشأن الليبي، في ظل تأجيل الإعلان عن موعد مؤتمر برلين للسلام أكثر من مرة. من جانبه، سعى رئيس المجلس الأوروبي، تشارلز ميتشيل، للدفع بموقف أوروبي موحد، والسعي إلى ملء الفراغ الذي خلفه الانسحاب الجزئي للولايات المتحدة من المنطقة. إلا أن زيارته للقاهرة، يوم الأحد الماضي، بدت متأخرة جداً على خلفية تسارع الأحداث.

فبعد أيام من إعلان تركيا، إرسال قوات لدعم حكومة طرابلس، تم إقرار وقف لإطلاق النار في ليبيا، استجابة لدعوات روسية – تركية مشتركة. وبدأ أعضاء من وفدي حكومتي طبرق وطرابلس في الوصول إلى موسكو، لمناقشة التوقيع على إتفاق للهدنة. وتزامن ذلك مع إعلان المستشارة الألمانية، عقد مؤتمر برلين للسلام أخيراً، في 19 من الشهر الجاري، في تأكيد على حدوث إنفراجة استثنائية في مواقف الأطراف المعنية.

وصفت صحيفة "الغارديان" البريطانية، اجتماع موسكو بـ"الإنقلاب الدبلوماسي". وبالطبع ليس هذا الإعلان الأول لوقف إطلاق النار في ليبيا، ولا هي المفاوضات الأولى، المباشرة أو غير المباشرة، بين أطراف الصراع. لكنها الأولى منذ بدء قوات حفتر هجومها على العاصمة طرابلس. وبالتاكيد لا يمكن التعويل بثقة على استمرار الهدنة أو تطورها إلى مفاوضات مثمرة، لكن الجلي هو الصعود المفاجئ لتأثير كل من روسيا وتركيا في جنوب المتوسط إلى هذا الحد. فرغم أن أياً من البلدين لم يتمتع بنفوذ كبير في ليبيا خلال العقود الماضية، فإن التخلي الأميركي، وغياب موقف أوروبي موحد، بالإضافة إلى الصراعات العربية-العربية، قد ترك فراغاً بحاجة لمن يملأه.

يبدو النموذج السوري، والتنسيق الروسي-التركي لاقتسام النفوذ وترتيب الأوضاع هناك، طبقاً لمصالح البلدين، هو ما يمنح الزخم للتحركات الدبلوماسية الأخيرة بشأن ليبيا. فالجميع يبدو راضياً، أو على الأقل معظم الأطراف. فصراعات المنطقة ومصائرها أكبر من أن تترك في أيدي الأنظمة المحلية ورأس المال الخليجي، والتي يبدو تأثيرها تخريبياً في أفضل تقدير، إن لم يكن مدمراً. أما الأوروبيون، والذين لا يبدون مستعدين للتورط عسكرياً، فراضِين بأي تسوية تضمن استمرار تدفق النفط والغاز وضبط حركة الهجرة عبر المتوسط. أما روسيا وتركيا، فتسعيان لتثبيت واقع جديد لنفوذهما، واقتسام ولو حصة صغيرة من بواقى مواريث المكاسب ما بعد الاستعمارية، حصة صغيرة فعلاً، لكن بكلفة تكاد لا تذكر على الإطلاق.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024