إنتداب يا مُحسنين

عمر قدور

السبت 2020/08/08
في عام 1997 أعلنت جزيرتا أنجوان وموهيلي انفصالهما عن جزر القمر، وعمّت فيهما المظاهرات المطالبة بعودة الانتداب الفرنسي، لكن فرنسا رفضت الطلب بل ربما تكون قد ساندت الحكومة الاتحادية التي أرسلت قواتها لقمع "الانفصاليين". تلك الحركة "الرائدة" للمطالبة بعودة الاستعمار تستحق التنويه لتبكيرها في كشف تفاهة "الاستقلال" الذي تحقق في معظم المستعمرات السابقة، فبلد مثل جزر القمر منذ استقلاله عن فرنسا منتصف السبعينات شهد ما يزيد عن عشرين انقلاباً أو محاولة انقلاب، ولعل انضمام الجزر إلى جامعة الدول العربية بمثابة تتويج لذلك المسار البائس. جدير بالذكر أن الجزيرتين المذكورتين سبق وصوتتا على الاستقلال في استفتاءين، في حين بقيت جزيرة مايوت التابعة تاريخياً للأرخبيل تحت الحكم الفرنسي، لأنها صوتت في الاستفتاءين على البقاء مع فرنسا، وبلغت نسبة من فضّلوا البقاء مع فرنسا في الاستفتاء الثاني 99.4% من الأصوات، وليس للنتيجة بُعد ديني لأن غالبية سكان مايوت من المسلمين. 

ما كان ينقص أن يأتي ماكرون، مقدّماً أفضل أداء له في أسوأ كارثة تعيشها بيروت وأسوأ تركيبة حاكمة، ليظهر رئيساً مُشتهى، بل لتبرز دعوات تطالبه بعودة الانتداب الفرنسي. وهي دعوات نبخسها قيمتها إذا رأينا فيها نقمة عابرة، ومن السخف الشديد "في المقابل" اتهام أصحابها بالعمالة على النحو الذي بادر إليه أنصار هذا الاستقلال بنتائجه الكارثية أو أنصار استقلال لم يتحقق وليس في سبيله إلى التحقق سوى في أحلامهم أو أوهامهم. 

خلال السنوات الأخيرة، قارن سوريون كثر بين الوحشية المتخيلة للاحتلال الإسرائيلي ونظيرتها المتحققة للاحتلال الأسدي، والفارق بين الاثنتين يشرحه حال الجولان المحتل الذي كُتبت له النجاة من مصير أسوأ. تلك المقارنة، من دون أن تستجدي احتلالاً إسرائيلياً بالتأكيد أو تبرّئه من جرائمه، تضمر تفضيل نوع من الاحتلال الخارجي أقل توحشاً من نظيره الداخلي. في المثال السوري أيضاً، رأينا تفضيلاً "لدى نسبة أكبر ممن يوصفون بالموالين" للاحتلال الروسي على نظيره الإيراني، والمضمر الذي يكاد يجهر من تلقاء نفسه هو تفضيل الاحتلال الروسي على الأسدي نفسه من قبل نسبة كبيرة ممن يُحسبون على الأخير. 

في شمال وشمال شرق سوريا هناك قوتا احتلال تحظى كل منهما بقبول شريحة واسعة من السكان، والكابوس الذي لا يريده أنصارهما هو انسحابهما لصالح عودة الأسد وحلفائه. صحيح أن أي واحد من الاحتلالات الموجودة في سوريا لم يأتِ بدعوة شعبية، لكن وجود كل منها يستند إلى أنصار يفضّلونه على الحكم الأسدي. والصحيح من جهة أخرى أن هذه الاحتلالات لا تلبي تطلعات الراضين بها، لكن يُنظر إليها من كل زاوية بوصفها الأقل سوءاً، وقد لا نجافي الواقع بالقول أن أوسع قناعة مشتركة بين السوريين هي الاعتقاد بضرورة وجود قوة دولية تكون بمثابة انتداب مقبول حتى تتسنى لهم القدرة على حكم أنفسهم. 

على الصعيد المفهومي، جاء مؤخراً وقت التفريق بين الاحتلال والانتداب، بعد عقود من الدمج المتعمد بينهما. لسنا هنا في حاجة إلى التأكيد على أن الانتداب كان تعبيراً عن التوسع الاستعماري، وتخللت ممارسته الفعلية سلوكيات مختلفة "ومتباينة بحسب كل حالة" مما يُنسب إلى مفهوم الاحتلال البغيض بمجمله. لقد درست أجيال "في سوريا مثلاً" إيجابيات حملة نابليون بونابرت على مصر، أما الانتداب الفرنسي فدرّسته في المناهج كإحتلال هو الشر المطلق، ولا تعلم غالبية السوريين أن دولة الاستقلال بمؤسساتها الحديثة المتعددة كانت إبنة حقبة الانتداب، وفي خضم التغني بأمجاد مقارعة "الاستعمار الفرنسي" الحاضر إلى الآن تُغفل حقيقة خروج فرنسا مع انتهاء صك الانتداب المُقرّ في عصبة الأمم لمدة ربع قرن. 

اليوم لا تفتقر دولنا إلى الاحتلال المباشر، أو إلى وكلائه الذين يقومون بمهمتهم على أكمل وجه. يتميز الإسرائيلي بينها بوجود قرارات دولية تصنّفه كقوة احتلال وتحمّله ما يترتب على ذلك من مسؤوليات قانونية، ولو بقي هذا نظرياً لعدم امتثال حكومات تل أبيب للقرارات الدولية. في حين نشهد تفاخر مسؤول إيراني باحتلال أربع عواصم عربية، بغداد وصنعاء ودمشق وبيروت، ولا توجد أية صيغة قانونية توثق واقعة الاحتلال وما يرتّبه من مسؤوليات على المحتل. التفاخر ذاته سنجده لدى موسكو، وقد وصلت الوقاحة بمسؤوليها إلى التحدث علناً عن اختبار الأسلحة الروسية الجديدة بأجساد السوريين، وهذا الاحتلال المتحلل من أدنى المسؤوليات "بوصفه فحسب احتلالاً" ستنفتح شهيته على ليبيا وعلى دول أفريقية أخرى. وسينعش الاحتلالان الأخيران الشهية التركية، أيضاً ضمن الإطار الرحب ذاته من التحلل من المسؤولية مع حيازة إرث إمبراطوري قريب يمكن الاتكاء عليه.

بدلاً من مناخ عام تحرري استقلالي يفرضه وجود الاحتلالات، ها نحن نشهد تسليماً بالعجز يتجلى بتمني الوصاية أو الانتداب. هذا يشرح واقع انعدام فرص التغيير داخلياً، وانعدام الفرص في مقارعة المحتل أو وكلائه. إنها ليست بالقناعة المتسرعة، فطوال عقود امتُحنت على أكثر من وجه محاولات التغيير في مختلف هذه الدول، وفشلت جميعاً لأنها واجهت تغولاً يفوق طاقاتها، وواجهت معه انعداماً لا مثيل له في القيم لدى السلطات الحاكمة الفعلية، أو تلك التي كانت بمثابة واجهة لاحتلال خارجي. توسل الانتداب بهذا المعنى هو أيضاً توسل قوة دولية قادرة على إزاحة القوة المهيمنة، وتلك القوة الدولية في أسوأ أحوالها ذات عتبة أخلاقية أعلى مما هو متاح. 

توسلُ الانتداب هو إقرار أيضاً بعطب عام لا يقتصر على السلطة، فنحن نشهد نجاح كفاءات محلية تتاح لها الفرصة في الغرب، وهي نفسها إما تفشل أو لا تأخذ فرصتها محلياً. الكفاءات الفردية بطبيعتها لا تعوض عجزاً مزمناً عن المأسسة والانتظام، وإذا كان من معايير الانتماء إلى السلطة قلة الكفاءة فقد بات من معهود مناوئيها عدم القدرة على توظيف كفاءاتهم، أي أن الانتداب مطلوب لإزاحة سلطات لا يزيحها سوى الأقوى، ولتمكين من هم غير جاهزين للحلول مكان تلك السلطات، أو على الأقل لا يملكون أجوبة على إرث هائل من الفشل والتخريب المتعمد.

المطالبون علناً بالانتداب، والوفرة من الذين يتمنون بصمت عودته، أوعى بغالبيتهم من الظن بأن القوى العظمى ستعيد تجربة الانتداب، على سبيل الإحسان هذه المرة. هو نوع من التمني يندرج في السياسة فقط إذ يتوخى اتفاق العالم على أن حال بلداننا سيرتد بالكوارث عليه، ولا بد من الوصاية عليها لتفكيك ما باتت تختزنه من إمكانيات الانفجار، ولإعادة تأهيلها كي تصبح بلداناً طبيعية لا أكثر ولا أقل. ربما تحمل هذه المطالبة تناقضاً أساسياً عندما تكون متقدمة على صعيد فهم أوضاعنا وعجزنا، لكنها متأخرة على صعيد فهم القوى الدولية التي لن تستجيب لها؛ تحديداً في زمن انسحاب الغرب من المنطقة وتركها لضباعها والضباع المحيطة بها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024