أحمد عمر
سبب عنوان المقال هو مسرحية شكسبير تاجر البندقية، التي تروي وقائع صراع الحب والثروة والانتقام والكراهية. في المسرحية كان أنطونيو تاجر البندقية الشريف يمقت شايلوك الوضيع الجشع ويهينه أينما لقيه، ثم تدور الأيام ويضطر إلى الاستدانة من شايلوك لتأخر سفنه التجارية في عرض البحر، فصديقه العزيز بسانيو بحاجة إلى ثلاثة آلاف من الجنيهات من أجل خطبة بورشيا الحسناء الشريفة، يوافق شايلوك على الدين بشرط وحيد، وقد حانت فرصته للانتقام من خصمه في السوق، وهو اقتطاع رطل من لحم أنطونيو عند الإخلال بالعقد، فيوافق أنطونيو.
تتأخر سفن أنطونيو، فيسجن للتقاضي، ويحين الحين وهو اقتطاع رطل من لحمه بحكم المحكمة، فيعلم بسانيو بما جرى لصديقه، ويروي قصته لبورشيا، فتتزوجه حتى يجوز له التصرف بمالها، تروي بورشيا القصة لقريبها المحامي بلاريو، فيعدّ لها مذكرة دفاعية، ويوكلها للدفاع، فتتنكر في زيّ محام اسمه بالتارز، وتترافع عن موكلها أنطونيو، وتطلب منه أمام القاضي وقد جهزت السكين أن يقتطع رطل اللحم، من غير زيادة غرام أو نقصان غرام، ومن غير دم، النزف محظور، الدم غير مذكور في العقد. ويجد شايلوك نفسه محاصراً بالحيل القضائية فيتراجع عن العقد ويطلب ماله، لكن المحكمة تحكم بمصادرة أمواله لصالح ابنته، وتنتهي المسرحية بنهايات سعيدة؛ ينجو أنطونيو الذي لعب دوره آل باتشينو في آخر فيلم مقتبس عن المسرحية، وتعود سفنه التجارية من عرض البحر سالمة غانمة، وتؤول ثروة شايلوك إلى إبنته، الوجه الآخر للمسرحية هي قصة الحب والوفاء بين الأصدقاء والأحبة، وإحقاق الحق وإزهاق الباطل.
استطاع السيسي الذي قتلت مخابراته الباحث جوليو ريجيني الإيطالي أن يسكت الحكومة الإيطالية بصفقة سلاح قدرها سبعين مليون يورو من لحم الشعب المصري، فالحكومة الإيطالية تنظر إلى مصالح الشركات الإيطالية الكبرى العاملة في مصر، وعلى رأسها شركة (إيني) وصفقات التسليح، أمس رأينا الصحافية الهولندية رينا نيتشز، التي شكت إلى رئيس الوزراء الهولندي سوء معاملتها في مصر لحديث لها مع قناة الجزيرة، فنصحها بعدم التعرض للسيسي لأنه بطل قومي إسرائيلي. قضيتها خاسرة.
يشرح عالم الاجتماع الفيلسوف الإيطالي موريزيو لازاراتو في كتابه "دراسة في الوضعية النيوليبرالية" أنه عبر "خصخصة الدَين العام يصبح المجتمع كله مَديناً"، خصخصة الديون السيادية ليست إجراءً عارضاً لجأت إليه الحكومة المصرية للتخلص من ورطة وجدت نفسها فيها، فغرض السيسي هو صناعة الديون، وهو نفس غرض صندوق النقد الدولي.
يتحول الدَين والقرض إلى وسيلة تشكيل لصياغة العقد الاجتماعي بين الأفراد والمؤسسات السياسية، يتحول المواطنون إلى مَدينين بمشاريع الدولة العملاقة للبنك الدولي من جيوب الرعية، وستدفع الدولة الديون من مستحقاتهم الوطنية، كالأجور والمرتّبات والدعم والتأمين وشبكات الرعاية وجملة الإنفاق العام المخصص للصحة والتعليم والقطاعات الخدمية غير الربحية للدولة، عملاً بتوصيات صندوق النقد الدولي، وهو شبيه بما يرويه القرصان الدولي جون بيركينز، في كتابه "الاغتيال الاقتصادي للأمم" عن الولايات المتحدة التي نهجت نهجاً مختلفاً عن نهج بريطانيا وفرنسا، هو نهج (سياسة الاحتواء الاقتصادي) والتي تتلخص في اقتراض مساعدات اقتصادية، وقروض إعمار لدول العالم الثالث مقابل أن تقوم الشركات الأمريكية بتنفيذ المشروعات الكبرى في الدولة الرهينة، مثل محطات طاقة ومطارات وشبكات طرق وشبكات اتصالات؛ وفي الوقت الذي تستدين هذه الدول من البنك الدولي، تنمو فوائد القروض وتصير أكبر من قدرة هذه الدول على السداد وتفيها ببيع أرطال من لحوم رعيتها.
أصدر الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي وهو من قادة "ثورة 30 يونيو" بياناً يندد فيه بالسياسة المالية للحكومة، موضحاً أن القروض الجديدة التي تحصل عليها الحكومة من صندوق النقد ليست هي التي تسددها، الذي يسدد هنا المصري (نور عينين السيسي) وأحفاده من الأجيال القادمة.
لا يفوت السيسي فرصة في أي خطاب أو حديث إلا وطالب بالمال، كأنه محاسب، أو جابي، أو كمساري، أو "كاشير"، ووزراؤه يهددون المواطنين حتى في المنافي والمهاجر كما فعلت نادية مكرم عبيد، والسيسي طالب البدينين بتخفيض أوزانهم. والبدانة لا تعني العافية دائماً، يقتطع السيسي يومياً أرطالاً من لحم المواطن المصري، وكان قد اقتطع رطلين من أرض مصر، هما تيران وصنافير، وسيناء تنزف، ذكرت تقارير إخبارية أن مليون مصري دخل تحت خط الفقر، وقالت تقارير أن الطبقة المتوسطة تحتضر. واضطر أشجع مصري هو علاء مبارك في تغريدة وطنية مخلصة، غيورة، محايدة، معاتبة للوزيرة المذكورة التي هدّدت بذبح الخصوم، إلى أن يحذفها، وهو الغني بأمواله التي جناها من كدِّ أبيه ثلاثين سنة في حكم مصر ووراثته. المواطن المصري مسحوق تحت خطين إما خط الفقر وإما خط "الفأر"، هو تحت الخطين معا.
ذكرنا المواطن المديون في مصر المقطوع من لحمه رطل ومن قلبه الأمل، وهو أحسن حالاً من المواطن المدفون في سوريا، والمواطن المحزون في المنافي، فالناس في سوريا باعت بيوتها من أجل الفرار، وقد باع صاحب سورية طرطوس واللاذقية مفروشتين بالجواري والإماء خمسين سنة، وقد عزّ الفرار من سورية القلعة المحاصرة، فالناس تبيع بيوتها من أجل جواز سفر وهو أغلى جواز سفر في العالم، وقد شاع مؤخراً بيع الأعضاء الثمينة مثل الكلى والقرنيات، أما القلب فقد أضناه عشق الرئيس الذي لم يجد الزمان بمثله منذ فجر التاريخ حتى ليله الحالك.