اليمين راديكالي واليسار محافظ؟

شادي لويس

الأربعاء 2020/11/18

التصقت الراديكالية باليسار، ولطالما تباهى اليساريون بوصف أنفسهم بالجذرية، بالتقدمية والثورية. أما خصومهم فكانوا على الضد، هم المحافظون كما ينعتون أنفسهم بفخر، أو الرجعيون كما يشار لهم أحياناً على سبيل النقد. اليسار، في نظر الكثيرين، تقوده الخيالات الطوباوية والأحلام، أحلام تغيير الواقع بشكل عميق ونهائي، وكوابيس الماضي المريع والمستقبل الذي لا يقل وحشية في اندفاع العالم إليه لا بهوادة. اليمين، بالمنطق نفسه، يقف على الأرض الصلبة للواقع، برضى عن الماضي وتفاؤل متواضع بالمستقبل، تمسك بالتقاليد وبالمؤسسات القائمة، بعقلانية تحذر من الوثبات والتغييرات المفاجئة، وتفضل التقدم البطيء والتراكم المتأني.

لكن تلك الصور الراسخة تبدو اليوم وقد فقدت معناها، تحولت إلى دالّات بلا مدلول، أو بالأحرى دالّات تشير إلى الضد من نفسها. اليسار الثقافي واحد من علامات فقدان القيمة، شبكة من الرموز منزوعة الفاعلية السياسية. من الداخل، ينتقد اليسار نفسه، يقول الأكثر حماساً أنه أضحى مستأنساً أكثر من اللازم. لكن الأدهى، أن الأدوار تبدو وقد تبدلت، اليمين راديكالي واليسار محافظ. الانتخابات الأميركية هي النموذج الأكثر فجاجة. اليسار يظهر وكأنه يقف جنباً إلى جنب مع وسائل الإعلام الراسخة ورقابة الشبكات الاجتماعية ونجوم هوليوود، ويبتهج بنصر بايدن، بعودة المؤسسة الأميركية وتقاليدها السياسية الهادئة والمراوغة. ترامب، في الجانب الآخر، ومعه 70 مليوناً من الناخبين الأميركيين، يمثلون عدم الرضا عن الوضع القائم، التوجس من الشبكات التلفزيونية ووكالات الأنباء والمؤسسات الدولية والمحلية ومعها النخب الثقافية وخطابها المهيمن، ويمثلون وحدهم مقاومة هذا كله وتحدّيه.

في كل معركة أخرى يتكرر النمط ذاته، التظاهرات التي تخرج ضد قيود كورونا وحالة الوضع الاستثنائي ومصادرة الحريات الأساسية، ترتبط باليمين، بأقصاه تحديداً. فيما يلوم اليسار الحكومات على تراخيها، أو أنها فرضت قيودها متأخرة جداً، أو أقل من اللازم. في فرنسا، وفي أزمة الرسوم الأخيرة، اليمين ينصب نفسه مدافعاً عن حرية الرأي، وعن العلمانية، وعن المواطنة، وتاريخ طويل من النضال الثوري في سبيلها. وتُهاجَم الأكاديمية اليسارية بوصفها ارتكاسية، متواطئة مع تقاليد الرجعية الإسلاموية، بإسم الخصوصية الثقافية وحقوق الأقليات. كذلك، وعلى نطاق أوسع، يقف اليسار خلف الصوابية السياسية، تلك التي أضحت معتمدة في مركز ماكينة الإنتاج الثقافي المعولمة، وداخل المؤسسات الرأسمالية العابرة للقارات. ويتقلد اليمين موقع المعارض للقيود التي تفرضها، ويقف ضد "ثقافة الإلغاء"، وضد "التمييز" ولو كان إيجابياً. في منطقتنا كذلك، تبنى اليسار خطاباً حقوقياً ونظريات التحول الديموقراطي المؤسسية، في مقابل يمين إسلامي لا يخجل من أيديولوجيته الجذرية ووسائلها الراديكالية.

لكن قبل هذا كله، بوقت طويل، قال لنا بريخت أن الرأسمالية، لا الشيوعية، هي الراديكالية. ولا يحيد في هذا عن قناعاته الماركسية، بل يؤكدها ببساطة. لم يكن ماركس بالطبع أول من اكتشف الطبيعة الجذرية للرأسمالية، بل كان وصفه المستفيض لثوريتها الاستثنائية والساحقة، المنتجة بثراء والمدمرة، هو الوصف الأبرع، وربما الأكثر حماسة وشاعرية أيضاً. الثورة بحسب فالتر بنيامين، ليست قطاراً سريعاً، بل هي مكابح الطوارئ لعالم ينزلق بجنون على قضبان التاريخ نحو الكارثة المحققة. يعلق تيري إيغلتون على هذا كله بالقول أن الرأسمالية هي اندفاع قوي جداً للرغبة الفاوستية، لفسلفة القوة، الاشتراكية هي التي تذكرنا بجذورنا المتواضعة كمخلوقات هشة، محدودة مادياً، واجتماعية، وتواجه نضالاً مستمراً.

يمكننا القول أن اليسار أضحى مستأنساً، تبنت المؤسسة بعضاً من مبادئه فابتلعته داخلها وتماهى معها. أو أنه، في لحظة الهزيمة الساحقة لإعلان نهاية التاريخ، اكتفى بالحد الأدنى، أو أن أقصى اليمين اختطف حالة عدم الرضا بين الجماهير ووظفها لصالح جذرية زائفة. ولعل هذا كله صحيح، أو بعضه. لكن، رغم ذلك، أو ربما بسببه تحديداً، علينا أن نتذكر أن اليمين كان دائماً راديكالياً، وأقصاه هو الأكثر راديكالية، وأن اليسار كان هو القابض على المكبح.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024