الخليفة والكلب

أحمد عمر

السبت 2019/11/02
فتح عينيه، فلم يجد زوجته وأمّ ابنه وحبّه!

كانت القناة الإخبارية ما زالت تبثُّ أخبار مقتل "الخليفة"، الذي آثر ترامب أن يبشّر به جمهوره الأمريكي بنفسه، ويروي الحكاية المشوِّقة لقتل أشرس إرهابي على كوكب الأرض، كما يدّعي الإعلام الأمريكي والعالمي، وقد اضطرت أمريكا إلى قتله في غير يوم العيد، ليس كما فعل قتلة صدام، فجعلوا عيد سنّة العراق مأتماً، وعيد خصومهم عيدين، والسبب لأن ترامب يريد أن يسحب القوات الأمريكية والوفاء بوعده لناخبيه، ولن يفي به، وما مواعيد عرقوب إلا الأباطيل، ثم تبيّن أنه سيعيد انتشارها بعد رفض الدولة الأمريكية العميقة، فأمريكا لا تخرج إلا بالشوكة من أرض دخلتها بالشوكة والسكين. ولم يذكر أحد أن ترامب أعلن يوم مقتل الخليفة عيداً قومياً مثل عيد الشكر.

كانت الساعة الثانية عشرة ليلاً، بعد دقيقة يبدأ يوم آخر، ولم يعد للأيام وتواليها معنى، استوت عنده الأنوار والظلم.

الشقة صغيرة، ولا أثر لها، سمع صوت الباب الخارجي، قفز من الأريكة التي كان قد غفا فوقها من شدة التعب إلى النافذة، فوجد زوجته بزينة الخروج، تغلق باب الحديقة وتغادر، أين ستذهب في هذه المدينة الألمانية الموحشة؟ وليس لهما صديق أو نديم. نظر إلى طفله النائم، وقال: مجنونة، حقاً إنها مجنونة، أمّ تترك طفلها في منتصف الليل وتخرج. النساء لهن أمور عجيبة يعجز الفلاسفة عن فهمها، أو أنها تجعل الناس فلاسفة؛ مثل شهوات الوحام، وحمّى الغضب، والحب بلا حدود، والبغض بلا حدود، قرّر أن يلحق بها رغم تعبه وميله إلى النوم الذي أطاح به خروجها. نظر إلى طفله النائم، وأمل في أن يبقى نائماً، فلو استيقظ لن يجد أحداً في البيت.

 لعل تعبه وانشغاله بالعمل الذي سلبه حياته سبّبا خروجها عليه، فهو يعمل في سوبر ماركت، لم يعد بشراً سوياً، صار شبه آلة، يعود منهكاً كل مساء، فيأكل ثم يتابع بعض الأخبار، ويغفو، من غير حتى أن يكلِّمها. ارتدى ثيابه بسرعة، ركب السيارة، ولحق بها، وجد زوجته تنتظر الباص، ركبت، فلحق بها، وصل الباص إلى مركز المدينة، نزلت، فأوقف سيارته، وتوارى خلف الشجر، كان شاب ينتظرها، تعانقا عناق التحية الألمانية، زوجتي وأمّ ولدي المرضع لها عشيق! يبدو أنها تعرفت إليه من خلال الفيسبوك، أو من خلال إحدى الألعاب على الشبكة العنكبوتية، زوجتي تخونني! أمّ تخون زوجها وابنها الرضيع الذي لم يفطم بعد! هذا لم يُسمع به في زبر الأولين، إنها ضريبة الغربة وإتاوة الجمال، هي جميلة، ولا تشبع من الإطراء والمديح، وكانت في حصن منيع في الوطن، فحولها الأهل، تزور وتزار، لم تكن تجد لزوجها وقتاً من كثرة الزيارات، كانت في منعة من أهلها وبهم، وهي الآن وحيدة، وسوى ذلك بثّتْ فيها دورة التأهيل اللغوي والإعداد الاجتماعي أفكار الحداثة الأوروبية، فهي امرأة ولها حقوق، وحقوقها أكثر من حقوق الرجل، والدولة تنصرها على الرجل ظالماً أو مظلوماً، الحق مع المرأة دائماً في محاكم الغرب، وإذا كانت شرقية ناصرتها الدولة أكثر، الدولة الأوروبية ضد الأسرة.

 ماذا يفعل الآن، وهو مشغول بطفله الذي تركه وحيداً، هل يحضر من صندوق السيارة مفتاح الصليب ويقتلها مثلما قتل أبو مروان زوجته، فيصير السوري خبراً عالمياً في شرائط الأخبار، ويجعل الناس تذكر دكتاتور سوريا بالخير لأنه كان يُخضع المتوحشين السوريين لقوة القانون، أم يتصرف بحكمة؟ أي حكمة تنفع مع الخيانة الزوجية. اتجهت مع عشيقها إلى شارع مظلم، فلحق بهما، لعلهما سيقصدان مكاناً يجلسان به، مقهى مثلاً، لم يتحمّل أكثر، فاقتحم خلوتهما في الظلمة وبرز أمامهما شاخصاً يضبطها بالجرم المشهود. فوجئ الرجل، ملامحه شرقية، لعله تركي أو باكستاني، فوجئتْ زوجته أيضاً، تلعثمت، وهذا يعني أنها تحسُّ بالذنب، وقالت ببرود تعرّفهما ببعض: زوجي، صديقي.. ارتبك الرجل، وخاف، لو كان ألمانياً ما خاف، قال صديقها معتذراً مستغفراً: نحن نتمشى...

 قال وعيناه تقدحان شرراً: تتنزّه مع زوجتي في منتصف الليل!

 سأله وهو يشير إليه بإصبعه وكأنها سنان رمح: من أي جنسية؟

 قال صاحبها: تركي.

 الرجل ليس عليه ذنب، لعله لا يعرف أنها متزوجة، الخطأ خطأ الزوجة.

 قال لها وهو يكتم غضبه: ابنكِ نائم وما زال يرضع، وهو يرضع كل ساعتين، تركتِ طفلك من أجل عشيقك يا خائنة!!

 قرأ التركي سورة الغضب وتراجع وهمَّ بالهرب، جرائم الشرف منتشرة في ألمانيا، وكل مرتكبيها وافدون. كانت الساعة قد ناهزت الثانية عشرة والنصف من شيخوخة ذلك اليوم الذي بدا وكأنه الأخير في التاريخ.

 يعرف أن زوجته جميلة وتحبُّ المديح، لا تشبع من الثناء، والغانيات يغرهنّ الثناء، ولا تردّ يد لامس، وتفرح بكل غزل، لم يعد يثني عليها منذ أن عمل، مع أنه يحبها، كان ما يزال يظن أنه في شهر العسل الذي يطول سنتين في بلادنا أو ثلاثاً، لكن مشكلة زوجته هي جمالها، وهي تقبل الثناء من أي أحد، من كل أحد. سأل نفسه، ماذا لو صاحت، ماذا لو اشتكته إلى الشرطة، ماذا لو قتلها؟ سيفقد الولاية على الطفل، ويؤول إلى جمعيات ألمانية، ربما لن يرى طفله بعد الآن، وسيفقد زوجته الجميلة، فهو يحبها وهي حسناء، تشبه الألمانيات، وإن قتلها سيكون قاتلاً ووحيداً وحدة مطلقة، فهو لا يعرف أحداً في هذه المدينة سوى زوجته وابنه، لن يزوره أحد في السجن.

 وقف الثلاثة، التركي متقهقر من الخوف، ويتحسّب للفرار خوفاً من البطش به، وهو يرى الغضب في عيني خصمه، والزوج حائر، قلبه ما زال مشغولاً بطفله، ويخشى أن يكون قد استيقظ، زوجته عنيدة، وتحبُّ الغزل ولا تشبع من الحب والمديح، ولا تردّ يد لامس.

 عاد الثلاثة إلى مركز المدينة المضيء، زوجته والتركي في المقدمة، وهو وراءهما، كأنه يقودهما معتقلين بغير سلاسل مرئية، التركي ما زال مرتبكاً، ولا يتكلم مقراً بذنبه. وجد أنه لن يستطيع أن يقنعها بالعودة، فقد حطّم كبرياءها، وأحرجها أمام صديقها الجديد، فهي غاضبة ولن تعود، وهو لا بد أن يعود، فطفله وحيد في البيت. اقترب من التركي، وهو يفكر في اللجوء إلى التهديد، لكنه نكص، وقال له بألمانية ركيكة فوجئ العشيق التركي من نبرتها اللينة التوسلية: زوجتي تحبني وأنا أحبها، ولدينا طفل رضيع، زوجتي مجنونة، أنصحك بإقناعها بالعودة إلى زوجها وطفلها، أنت تركي وتفهم، ثم قال له: أرجوك، وانحنى وقبَّل يد عشيق زوجته!

 ركب السيارة وعاد، وصل إلى البيت، كان طفله نائماً، وترامب ما زال يخطب ويذكر بطولاته، ذكر أن كلاباً شاركت في عملية الاغتيال الناجحة التي شاركت فيها خمس دول، وكأنها حرب عالمية، وأبرزت الفضائية الإخبارية راعياً سورياً شاهداً أنكر أنَّ المقتول هو البغدادي، وخرج محللون يحللون تغريدة ترامب عن الكلب الذي شارك في العملية وجُرح.

 جلس ينتظر زوجته، كيف ستعود، بسيارة أجرة؟ كان متعباً وضائعاً، ولا يعرف هل يبكي، أم يعود إلى جوار طفله وينام، كيف سينام؟ وراح يفكر، هل يذهب غداً إلى العمل، أم يعتذر، أم ينتحر؟ أيقن أنّ شيئاً كبيراً قد تغيّر في حياته، وأنه اندمج، وصار ألمانياً تام الاندماج، وأن الأرض غير الأرض، والسموات غير السموات. لعل السبب في كل هذه المصائب هو لحم الخنزير وشحمه الذي يدخل في كل الأطعمة، حتى الهواء فيه ريح الخنزير.

 استرخى بجانب طفله وقبّله، واعترف لنفسه أن خصمه، وعشيق زوجته أوسم منه وأجمل، وأن حلاقته كانت حديثة الطراز، وأنه يشعر بالعار، وأنَّ:

 شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بِهِ

 وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ

 ذكر المذيع أنَّ ترامب قال في التغريدة إنه قد يبثُّ قسماً من فيلم الاغتيال، وإنه لن يكشف هوية الكلب البطل الجريح الذي شارك في عملية اغتيال الخليفة، وقال محلل سياسي: إن الكلب الأول صنع خلافة، وإن الكلب الثاني سمح لها بالنشوء، وقد دُمّرنا مرتين، مرّة من الكلب الأول، ومرّة من الكلب الثاني.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024