لبنان.. قطيعة تاريخية بين مئويتين؟

وجيه كوثراني

الأحد 2020/04/26

قال هنري فرعون ( 1903-1993 ) قبل وفاته بفترة قصيرة ، وكان شاهداً على الجزء الأكبر من مئوية لبنان الكبير : "قدر لبنان أن يظل على حال انجاز دائم ومستمر لاستقلاله.  فهو إذ يصنع هذا الإستقلال وينجزه في حقبة من تاريخه ، لا يلبث أن يجد نفسه في حقبة أخرى مضطراً لتحديد مفهوم استقلاله ومعناه . هذا هو قدره الناجم عن أهمية موقعه الجغرافي ، وعن أطماع الآخرين فيه ، وعن تعدد طوائفه التي عليها دائماً أن تختبر وحدتها وانتماءها اليه وتصنعه من جديد في كل مرحلة لها” .

والحقيقة أن ما يصرّح به هنري فرعون باختصار وبكلمات قليلة ، يلخص "تاريخية لبنان" ، أي زمناً تاريخياً قابلاً للتجاوز وليس قدره بالمعنى المأساوي: السؤال ، هل يعبر هذا الرأي حقيقةً عن حالٍ تاريخي يجب أن يدوم وكما نستشف من الخطاب الموجّه الى الطوائف اللبنانية وكأنها كيانات جوهرية قائمة بذاتها وأن عليها "واجباً" اختبار "وحدتها" وتكييف هويتها بالإنتماء الى لبنان ، فإذا صح القول بأهمية العنصر الأول : الموقع ومطامع الآخرين ، وهو المعطى الثابت في التاريخ، فهل يصح القول الثاني : أن على الطوائف اختيار وحدتها في صيغة الإنتماء الى لبنان. 

كثابت تاريخي أيضاً؟ يذكرني هذا المنهج أيضاً  بمنهج كمال صليبي أيضاً عندما يطالب في

كتابه "بيوت بمنازل كثيرة" الطوائف بتنظيف منازلها مما علق فيها من بيوت العناكب لتكيّف هويتها مع الإنتماء للبنان، أي منازلها في البيت الواحد .

كان ميشال شيحا منذ البداية ، وفي خضم متابعته للسياسة الداخلية عبر مقالات معبّرة تجمع بين تحليل الحدث والتعليق النظري والمفاهيمي عليه ، قد طرح باكراً هذه المشكلة ، والتي ستصبح عنصراً من تركيب بنيوي في الثقافة السياسية اللبنانية السائدة . كان هذا في سلسلة من مقالات كتبها على مدار أعوام 1936-1953 ، عندما طرح سؤالاً حينها عبّر فيه عن ضيقه من طبيعة علاقة الطوائف بالطائفية ، رغم تعريفه للبنان بأنه " مشاركة طوائف" متى تصبح البلاد غير طائفية"؟ 

في مقالة "لبنان الطائفي" (1945) يتوجه شيحا الى الطائفة ككائن قائم بذاته" يوم تنعقد النية بجدٍ على ألا يبقى لبنان بلاداً طائفية سيكون لزاماً على كل طائفة القبول دون الكثير من الصياح أن يكون تمثيلها في بعض الأحيان أدنى من حجمها ، ويكون التعويض جعل تمثيلها أكبر من حجمها في أحيان أخرى"  ويضيف "وأي ضير في أن تغيب عن الحكومة طائفتان أو ثلاث في وقتٍ من الأوقات" . 

بعد ثلاث سنوات وفي مقالة كتبها ميشال شيحا عم 1948 بعنوان "المستوى الخلقي" يتوجه الى المواطن التابع ويتحدّث بوعي عن التقويض الحاصل في العمل السياسي اللبناني... 

يطلب من جيل الشباب أن يتحرّر من ممارسات "المحسوبية السياسية  Clientele politique  وما "تحفل به غرف الإنتظار والسلالم الخلفية من سفالات "(...) ما نشهده عمل تقويض ، عمل أعمى وسخيف": "أن يُدبَّر بأي ثمن أمر المهرب ، وأمر الوصولي ، وأمر الموظف الفاسد (لأن هؤلاء من الذين يضمنون التأييد الشعبي" ، فإذا لم يتحرر اللبنانيون من هذه الوصايات الشائنة ، فإنهم مضيعون ثلاثة أرباع حيويتهم وقوتهم . ذلك أمر يقع على القادة الزام خلقي بالتفكير فيه والإعداد له . لكنهم ، على ما يظهر عادوا لا يحبون إلا القامات المنبطحة والظهور المنحنية .." ثم لا يلبث أن يثور بكلمات غاضبة في وجه الطرفين ولكن في وجه التابع أولاً :

"أنا رجل فلان" وأنا رجل علاّن ، - أيها العبيد وأبناء العبيد ! قولوا أنكم رجال مبدأ أو فكرة أو تقليد أو مثل أعلى أو رجال أنفسكم ، ولا تقولوا أنكم مربوطون كما الكلب بزمامه ، الى مصير فلان من الناس أيّاً كان".

يعبر ميشال شيحا عن هذا التعثر بابداء خوف شديد على مستقبل البلاد / ففي مقالته (Les petits procedes)  "الأساليب الوضيعة" "كانون الثاني 1950 يتحدّث عن ألاعيب السياسيين في التوظيف والتوزير والتلاعب بالإقتراع وقانون الإنتخاب ، فيكتب ناقداً سلوك المواطن اللبناني حيال سياسييه "نعلن أنه إذا لم يتقدم الناخب اللبناني في مضمار الحرية والإستقامة المدنية وإذا ظلت نوعية المواطن اللبناني تتردى فبلادنا هذه لا مستقبل سياسياً لها" . وفي مقالة أخرى " في الحرية (3 شباط 1950) يعلن عودة العلاقات الإقطاعية بذهنيتها وعقليتها الإستتباعية ويستنتج بشيء من خيبة الأمل لكن بكثير من الحدس التاريخي "فالأسباب ماثلة للعيان سيكون مؤرخو الغد أبعد من مودتنا وأقل رأفة بنا من دبلوماسيي اليوم" ، فهل كان هذا الإستشراف المستقبلي الذي تعبر عنه حكمته الأخيرة (توقع رأياً قاسياً من مؤرخي الغد) يعبر عن موقف متشائم من إمكانات التطوير واحتمالاته في لبنان ؟؟.

الحقيقة أن ميشال شيحا رغم غضبه المعبّر عنه في هذه المقالة ، ظل متفائلاً بتاريخ مستقبلي تستطيع فيه السياسات والبرامج والخطط الحكومية تليين عصب الطائفيات ، وتثقيف رعايا الطوائف ليصبحوا مواطنين أصحاء مؤهلين لانتخاب برلمان تمثيلي قادر على التشريع والرقابة واقتراح سياسات اقتصادية وتنموية وتربوية رشيدة ، نموذجه الأعلى والمرجو (النموذج السويسري (L’exemple Suisse ) P 135 على أن المفارقة في مواقف شيحا أنه يجعل من البرلمان أي مجلس النواب "وجهاً مبتكراً من وجوه الفدرالية" " فكما توجد في سويسرا كنتونات توجد عندنا طوائف . وللكانتونات قاعدة جغرافية ، وأما الطوائف فقاعدتها ماثلة في الشرع (التشريع) وحسب،  أي في اعتماد قانون للأحوال الشخصية . ونحن في الحالتين حيال وجوه من الحياة الإجتماعية والسياسية تأبى أن يختلط بعضها ببعض." 

هذا الفصام بين شروط المواطنة المتجاوزة للهويات الطائفية من جهة والتشريع الموحد قسراً بين التمثيل السياسي (قانون الأنتخاب) والأحوال الشخصية من جهة ثانية ، هي في رأيي العلة الأولى لمرض لبنان في مئويته الأولى ، مرض شكا ميشال شيحا من معالم بداياته الأولى ، كما اكتشف بشيء من الخفر والتردد "فيروس" اشتغاله وانتشاره وسر حياته وقدرته على التحوّل وحماية الطائفية ، وهو ما سمّاه بملاحظة ذكية “La clientele polituque”  وهذه ما هي إلاّ تسمية مبكرة لما تسميه أدبيات علم الإجتماع السياسي بسستام الزبائنية السياسية" ولكن شيحا فصلها عن السياسة واعتبرها سلوكاً وضيعاً خارج الطائفية. هذه الأخيرة ، ليست منفصلة عن الطائفية السياسية أو خارجة عنها كما يرى شيحا ، بل هي شرط وجودها وحياتها ، أي قلبها ودماغها ، أي هي جزء من بنيتها بالمعنى الأنتروبولوجي السياسي للكلمة . وهذا ما لم يتهيأ لميشال شيحا في زمنه وحدود تجربته مع الطائفية التي اعتاشت على الزبائنية فرصة اختبار مداها كتجربة ومدى ضررها في الحياة السياسية والثقافية اللبنانية . وأهل هذه الزبائنية المنخرطون منها نوعان: نوع ينتفع بوعي ، وهم الفاسدون أو المضطرون للإستتباع بوعي ومصلحة ، ونوع آخر وهم الأكثرية المستلبون (alienes) بغير وعي ، أي "المجذوبون" بالمعنى الصوفي ، الى قطب سياسي يحسبونه "ولياً" أو "قديساً" أو "إماماً" أو "أباً" لم تنحلَّ عقدة أوديب عندهم . 

أما إذا ذهبنا مع مخيلة ميشال شيحا المستقبلية وقد أصبح مستقبله "ماضياً" و "حاضراً" لنا وتمثلنا – حالنا – كمؤرخين ينتظر منا شيحا رأياً بسياسييه (سياسيي الأمس) علماً أنه كان يتوقع تحسناً وتطوراً نحو الأفضل لدى سياسيينا ،  أي سياسيي اليوم ،أي أقله في الثلث الأخير من المئوية الأولى ، وربما بالنسبة لي – في النصف الثاني من المئوية وقد عاصرتها طالباً وباحثاً وكاتباً ومؤرخاً، فماذا عليّ أن أقول لكم  وكيف أجيب على انتظارات ميشال شيحا ؟.

لا شك أنكم أو بعضكم توافقوني الرأي أن سياسيي اليوم هم أسوأ من سياسيي زمن شيحا ، ومع هذا يجب ألا نقع في فخ الأفضليات بين السيء والأسوأ ؟ فالسيء ، إن لم يجد من يصدّه ويمنعه ويحاسبه يؤسس للأسوأ ... فالمسألة مسألة ثقافة سياسية ومسألة تاريخ عقليات وذهنيات.

ذاك مسار في تاريخ لبنان لم يتحوّل الى تاريخانية متوخاة ، أي الى بداية ونهاية وغاية يخضع لنظام التطور أو التقدم ، لا بمنهج هيغلي على ما كان يرغب به ليبراليون ، ولا بمنهج ماركسي ، على ما كان يرغب به يسار اشتراكي ، ولا بمنهج اصلاحي توفيقي ، على ما كان يرغب به اصلاحيون معتدلون يطمحون لتأسيس دولة مدنية عادلة.

فماذا حصل كبديل لهذه التاريخانية المتوخاة ؟ أو "المتخيلة" وفقاً لتعبير بندكت أندرسن ؟ في كتابه "الجماعات المتخيلة"  والمتخيل التاريخي للدولة/الأمة قابل للتحقق في التاريخ إذا توفرت شروطه.

أسس سياسيونا بعد ميشال شيحا لحرب أهلية باردة – حسب تعبير وضاح شرارة ، لتتحوّل الى حرب عسكرية مدمرة خلال خمس عشرة سنة ، استخدمت خلالها أفتك انواع الأسلحة وأوسخ أساليب القتل والخطف والتشريد والتدمير والتهجير . احتربوا بأجساد طوائفهم واستقووا بجيوش الأصدقاء والغرباء والأعداء . ثم تذرّعوا بأنها كانت حروب الخارج في لبنان وكأنه لا قابلية للطائفيات في الإندراج بها . ثم لما تعبوا وأنهكتهم حروب الأخوة والرفاق والشوارع والإحياء والزواريب ، إنقسمت الطائفة طائفيات ، اضطرهم الإنهاك الى طلب الوصاية كحال القاصر تماماً . فكانت خمسة عشرة سنة أخرى  من الوصاية تصلّبت خلالها الإنتماءات الطائفية لتتحوّل الى عصبيات سياسية ، فضاع الميثاق أي شراكة الطوائف في حكم لبنان بين احتلال اسرائيلي ووصاية سورية لها أنصارها والمدافعون عنها . بل ان تجديد الميثاق بوثيقة الطائف ورغم وعد الأخيرة بالغاء الطائفية السياسية، فإن هذه الأخيرة اشتدت عوداً ولا سيما بعد اغتيال الرئس رفيق الحريري ، فتحوّل طابع الصراع وديموغرافيته وسوسيولوجيته السياسية من مسيحي-اسلامي الى سني-شيعي في محاكاةٍ لإنقسام اقليمي إيراني - سعودي. وإذ انقسمت المسيحية السياسية أيضاً بين مسيحية شيعية ومسيحية سنية ،..  فكان أن أسفر هذا التحوّل في خريطة الطائفيات السياسية عن استنسابية مفتوحة في مفهومية الميثاق وقراءة الدستور، نشأ علم كلام لبناني جديد اسمه "الميثاقية" أو بالأحرى (النيو ميثاقية) ، وأعلامه المجتهدون الأوائل "متكلمو حزب الله ". وكان صراع كلامي حول "الميثاقية" وكأن هذه الأخيرة إشكال من إشكاليات "المعصية" أو الكفر في اللاهوت.

ولنتذكر هذه المشاهد من أواخر المئوية لنضيفها إلى ذاكرة ميشال شيحا في أوائلها : 

  • يستقيل وزراء شيعة ذات يوم ، فتصبح الحكومة غير شرعية وغير ميثاقية ، وإذ لا يكفي منع الإستبدال بالترهيب السياسي يتبرع رجل دين بفتوى تحرِّم قبول أي منصب وزاري على أي مواطن شيعي ، (ترهيب ديني) باعتبارها معصية كبيرة صاحبها مؤبد في النار وليس في منزلة بين المنزلتين!!!

  • يرد رئيس الحكومة بدعوة المفتي الى السراي (مقر الحكومة – وحيث يقيم معظم وزرائها) لأداء صلاة الجمعة ، مما يعني رمزياً إجراء طقوس المبايعة في استذكار واضح لذاكرة البيعة في الإسلام .

  • وعليه ، وبناءً على المقدمة الكبرى ثم الصغرى يرد الجنرال عون "منطقياً" : إذا كانت الحريرية كُرِّست باعتبارها أكثرية سنية في رئاسة الحكومة ، وإذا كانت الشيعية السياسية التي عرفت بالثنائي – الشيعي الأكثري في الطائفة ، قد كرّست نبيه بري رئيساً أبدياً للمجلس فلم لا يكون الجنرال عون- وبحكم تمثيله للأكثرية المسيحية رئيساً للجمهورية ؟ وفقاً لهذا المنطق ، والذي سيسمى "منطقاً ميثاقياً" انتهت المئوية الأولى من تاريخ لبنان.

أما المرجعية الدستورية لهذا المنطق فهي الفقرة (ي) من مقدّمة الدستور المعدّل : " لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك"، والعيش المشترك هو دائماً : " تعايش طوائف عبر رضا زعاماتها السياسية وطاعة رعاياها ، لا عبر عيش مواطنين في عقد اجتماعي بين مواطنين ودولة ".

على أن الفقرة (ح) من مقدّمة الدستور تناقض الأولى صراحةً إذ تنص : " الغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية" والخطة المرحلية منصوص على آليتها في المادة 95 المعدّلة من الدستور ، والمادة 22، علماً أن هذه الدعوة الدستورية نامت في الأدراج وطواها النسيان .

إذاً "استنسابية" فاقعة تتيحها قراءة الدستور لمصلحة الأقوى ، أتاحت وتتيح لأطراف الطبقة السياسية الحاكمة (أحزاباً وزعامات) أن تختار في كل أزمة "جوكر" ربحها في المقامرة على السلطة وسلم نجاتها أي ما أسمته أطراف السلطة "الميثاقية" وهي صراط الفرقة الناجية التي يدعيها زعماء الطوائف في لاهوتهم السياسي أو علم كلامهم .


خلاصة: زمن القطيعة التاريخية وصعوبته 

حتى هنا ملخص لمشهد مئة عام من تاريخ الحياة السياسية في لبنان ممثلةً بأجيالٍ من  الطبقة السياسية الحاكمة .لا شك أن تاريخاً آخر لحقول من الحضارة والثقافة والأدب والفن والفلسفة والعلوم والإبداع والمدرسة والجامعة والنخب يفرض نفسه بتجلٍ واعتزاز .. لكن تبقى أوجه المقارنة بين السياسي والحضاري مدعاةً لمفارقة عجيبة . بل أن التأريخ للجتمع المدني اللبناني وتاريخ العمل النقابي في شتى القطاعات : العمالي والطلابي والمهني كانت تواريخ مشرفة وساطعة . فمن الحركات العمالية المطلبية الى الحركات الطلابية ، الى حركات المجتمع المدني، الى العمل النقابي المتقدم ، كانت تحركات قطاعات الشعب اللبناني ،يضاف اليها وعي نخب متجاوزة للطائفية والزعامات الطائفية تحاول شق طريق بناء مجتمع مدني وثقافة مدنية. لكن للأسف كانت القوى الطائفية الداخلية ، والقوى الإقليمية التي لا مصلحة لها بالتغيير الديمقراطي والإصلاحي في لبنان ، وكذلك القوى الدولية المتحالفة مع هذه الطبقات والحامية لها ، تقف بالمرصاد لإيقاف هذه التحركات وإجهاضها بسلاح الطائفية المعمّر والفاعل دائماً ، والقابل للتجديد والتحوّل كما الكائن الفيروسي تماماً.

أما وقد غادرتنا المئة الأولى ، كماضٍ زمني ، فإنها لم تغادرنا كذاكرة تاريخية ،والذاكرة بطبيعتها لا تغادر، انها تبقى في حالة تحوّل : فهي أما أن تتحوّل الى آلية اعاقة إذا جمدنا صورها (أي تذكرها) في تقديس الماضي والإحتفاء به أو القبول به أو نسيانه نسياناً مرضياً دون وعي أو الى آلية دفع الى الأمام إذا جعلنا من الذاكرة نفسها موضوع درس للتاريخ ونقد له . كما يقول بعض المؤرخين الجدد ، وكما يشدد على هذا المعنى الفيلسوف "بول ريكور" ، "الذاكرة والتاريخ والنسيان" ، وكان نيتشه سباقاً الى هذا الموقف ،عندما ربط التاريخ بارادة الحياة الحاضرة ومعناها ومستقبلها .

هذا وإذا كنت قد ركّزت على ذاكرة المئوية الأولى لدولة لبنان الكبير ، وليس على الحديث عن الإنتفاضة ، فإنما لأشدد على "الدرس التاريخي" وعلى التحذير من "فخ الذاكرة" ، وأعني الذاكرة الطائفية ، مرض الهويات الجماعاتية في علاقتها بالدولة أي بالسياسة .

إن أروع ما بان في الإنتفاضة هو ألإصرار على مواطنية الحراك ومدنيته الصارخة والواضحة والوقوف في وجه كل محاولات التوظيف من هنا أو من هناك والتي تزداد اليوم. واللافت أيضاً تبلور قيم انسانية جديدة (قولاً وممارسة) (الإيثار والتضحية والتعبير الخلقي والجمالي والإنساني وكل هذا بدا رائعاً لدى شابات وشباب لبنان المنتفض في أسابيعه الأولى. أما محاولات التشويه وسياسات الإختراق والإستغلال الطائفي التي مورست على أطراف الإنتفاضة وربما لا تزال تمارس فتبدو رخيصةً ومكشوفة . 

هذا علماً أن التحديات كثيرة أيضاً ولعلّ أهمها وأخطرها: حاجة الحراك الى إطار تنظيمي(وليس بالضرورة حزباً) يقود مشروعاً جديداً للبنان – لبنان – الدولة المدنية ..

نقف الآن على مفترق طريق ، بين تاريخين ، ليس بالضرورة بين مئويتين زمنيتين ، بالمعنى الفيزيائي ، فالقرن قد يكون طويلاً ، كما نظر فرنان بروديل الى القرن السادس عشر ، وقد يكون قصيراً أو وجيزاً كما نظر المؤرخ البريطاني هوبسباوم الى القرن العشرين من زاوية حدثين تاريخين : الثورة البلشفية  ونهاية الإتحاد السوفياتي.. في حين رأيته من زاوية تأريخي للنهضة العربية والثورات العربية في مطلع القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين قرناً طويلاً . وهكذا أرى مئوية دولة لبنان ، فقد تطول ، على أن الإنتفاضة الشعبية الكبرى بجرأتها وعنفوانها وكشفها وفضحها وامتدادها، وبمشروعها تحت عنوان "ثورة وطن" و"مواطن" تؤسس لتغيير جذري في العقلية والثقافة السياسية والأفكار. انها تؤسس – كما أتوقع على المدى البعيد لقطيعة تاريخية بين مرحلتين مرحلة الدولة الطائفية ومرحلة الدولة المدنية . أما زمن القطيعة التاريخية فلا يقاس تحققه بسنة أو سنوات انه انجازات صغيرة وكبيرة تتراكم على طريق بناء الدولة المدنية . 

وهنا يلزم التذكير بالتحديات والمحاذير :

  • ان الثقافة السياسية (الطائفية-الزبائنية) وقد انتقلت من مستوى "التنفيعات" الصغرى للأفراد والعائلات الى مستوى القناعات الشعبوية المستلبة لجمهور الطوائف تحت وهم "الحماية" و "الإستقواء" بالسلاح أو بالحرب الأهلية ، أو بالتدخل الخارجي ، لا زالت كامنة ، بل ماثلةً وجاهزةً للإستخدام بيد زعماء الطوائف اللبنانية ..

  • ان تداعيات وآثار افلاس الدولة ، وانهيار النظام المالي المصرفي ، ونهب الثروة الوطنية وتبديدها ، كلها ضغوط أدت وتؤدي الى مزيدٍ من الإفقار والتجويع ، وهذا صحيح أن من شأنه أن يؤجج الحراك الشعبي ويحوِّله الى ثورة هوجاء وأساليب عنف ، لكن لن يكون هذا التحوّل جسر عبورٍ الى نظام سياسي أفضل، متجاوز لسابقه . إذ سيكون الجوع في هذه الحالة ، سبباً لاحتمالاتٍ تاريخية خطيرة: حرب أهلية ، أو تدخل أجنبي ، أو تسويات تتجدّد من خلالها سيطرة الطبقة السياسية نفسها مع مزيدٍ من الفرز الطائفي..

  • انّ الصراع الدولي والصراع الإقليمي المستدخل أو المتقاطع معه ، يتداخل في الإنقسامات الطائفية اللبنانية ويؤثر فيها تأثيراً مباشراً وفاعلاً. ولا شك أن الصراع الإقليمي الإيراني – السعودي ، والحسابات الاستراتيجية والتكتيكية التركية حيال شمالي سوريا وشمالي العراق ، تزيد وتضيف الى المشهد ألواناً  من التأثيرات الطائفية والمذهبية والإثنية حيث تمثل آثار المشهد في لبنان ، في تمظهرات سنية/شيعية ، بل أيضاً وللأسف في "ولاءات" ايرانية وتركية ، فضلاً عن ولاءات سلفية – سعودية...

كل هذا ، لا يشكل تحديات فحسب ، بل أيضاً مخاطر ومعوقات ، لعملية التحوّل التاريخي الممكنة (كإحتمال تاريخي) ، لكن ومع ذلك، فإن الأفكار لها أيضاً قوتها وديناميتها في التاريخ لا سيما إذا حملتها أجيال جديدة ، وإذا ما قدّمت الإنتفاضة (الحراك المدني بشكل أساسي) عبر هذه الأجيال ، نموذجاً بديلاً لخطاب مستقبلي بديل يحمل مشروع "جماعة وطنية" "متخيلة" أي بالمعنى الذي يقدمه منظور بندكت اندرسون "للجماعات المتخيلة" ومن منظور "نشوء الأمم" وشروطها للتحقق التاريخي.


(محاضرة ألقيت في جلسة نظمتها الحركة الثقافية – أنطلياس في إطار المهرجان اللبناني للكتاب ، السنة التاسعة والثلاثون – دورة مئوية لبنان الكبير ، بعنوان: " العامية الكبرى "الإنتفاضة" ومئوية لبنان الكبير ، والتحديات والإنتظارات ، 6 آذار (مارس) 2020.)
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024