غزة أهم من السفارة

محمد العزير

الأربعاء 2018/05/16

أراد الرئيس الأميركي الخامس والاربعون دونالد ترامب من تنفيذ قراره بنقل مقر السفارة الأميركية من تل ابيب الى واشنطن في الذكرى السنوية السبعين لقيام الكيان الصهيوني على ارض فلسطين، ان يصيب عصافير كثيرة بحجر واحد. بالطبع لم يكن بين تلك العصافير التي استهدفها ترامب من خلال خروجه على السياسة الخارجية الأميركية التقليدية منذ الاعتراف بإسرائيل كدولة عام 1948، ان يتحول القرار الى أسوأ يوم أميركي لإسرائيل منذ ذلك التاريخ. جاءت النتيجة مخالفة تمامًا، وخسرت إسرائيل من الدعم الإعلامي والشعبي أميركيًا في يوم واحد، أكثر من أي يوم آخر في تاريخها.

عندما سحق "جيش الدفاع الإسرائيلي" كل الجيوش العربية مجتمعة في حرب حزيران عام 1967، وأكمل احتلال ما تبقى من فلسطين مع هضبة الجولان وصحراء سينار التي تفوق مساحة فلسطين كلها بأكثر من ضعفين، خرج عشرات الاف الأميركيين من يهود ومسيحيين في المدن الرئيسة في الولايات المتحدة وهم يهتفون "اقتلوهم جميعًا... اسحقوهم جميعًا" كان المقصود بـ "هم" الفلسطينيون والعرب. بعد ست سنوات ونيف خرجت جموع اقل عددًا تطالب الرئيس في حينه ريتشارد نيكسون الغارق في وقائع فضيحة ووترغيت، ان يدافع عن "الديمقراطية الوحيدة" في الشرق الأوسط وفي ارض الميعاد. لكن الثقل الرئيس كان انتقل الى العمل المؤسسي من خلال جماعات الضغط "اللوبي" في واشنطن العاصمة التي أصبحت عرينًا للصهيونية اليهودية والمسيحية على السواء. بالأمس لم يخرج أحد احتفالًا. كان الشارع متروكًا لمناهضي إسرائيل ومعظمهم من اليهود والأميركيين وقلة من العرب الأميركيين.

دخلت كلمة النكبة (Al Nakba) جل المعاجم الأميركية منذ سنوات تيمنًا بدائرة المعارف البريطانية (الإنسكلوبيديا). يعرفها القاموس التراثي الأميركي (The American Heritage Dictionary)، على انها ترحيل وطرد مئات الآلاف من الفلسطينيين عام 1948 من الأرض التي أصبحت إسرائيل عند تأسيسها كدولة مستقلة، فيما يعرفها قاموس اوكسفورد بأنها التعبير الفلسطيني عن وقائع العام 1948، عندما رُحّل الكثير من الفلسطينيين بسبب انشاء دولة إسرائيل الجديدة. لإستخدام التعبير بصيغته العربية دلالة واضحة على اعتراف عملي بواقعة تاريخية. الاّ أن هذه الكلمة لم تستخدم منذ دخولها القاموس أكثر مما استخدمت يوم الاثنين، بينما كانت ابنة ترامب ايفانكا وصهره جيريد كوشنر يوزعان الابتسامات في حفل افتتاح السفارة الأميركية الجديدة في القدس الشرقية تنفيذًا لوعد ترامب الإنتخابي وترضية لكبار المتمولين والممولين الصهاينة لحملته الانتخابية وتعبيرًا عن صهيونية الصهر وصهيونية السفير الأميركي الجديد لدى إسرائيل المستوطن الأميركي دايفيد فريدمان. لم ينطبق حساب الحقل الترامبي على بيادر القدس.

لم تكن عناوين الصحف ومقدمات نشرات الأخبار الأميركية مفعمة بما انتظره ترامب، الذي يحلو له ان يعتقد، كما يحلو للكثير من العرب، أن اليهود يسيطرون على الاعلام بلا منازع ويفعلون ما يرضي إسرائيل، بالمدائح والتبريكات لهذه الخطوة الإستثنائية. لم يكن لترامب ان يحصد غلة كبيرة من خطوة رعناء. حال بينه وبين ذلك الإصرار الفلسطيني والصلف الإسرائيلي فتقدمت اخبار المجازر الإسرائيلية في غزة على اخبار الإفتتاح في القدس. عنونت الـ "نيويورك تايمز" التي تصدر من اكثر مدينة ذات كثافة يهودية في العالم "إسرائيل تقتل العشرات على حدود غزة فيما السفارة الأميركية تفتح في القدس" فيما عنونت "الواشنطن بوست": "غزة تدفن قتلاها فيما عدد القتلى على تظاهرات السور الى ستين على الأقل. ونقلة ترامب للسفارة تتسبب بتظاهرات مميتة. فيما قالت قناة "سي. ان. ان" في مقدمة نشراتها "مواجهات دامية مع افتتاح السفارة الأميركية في القدس" وفي تحليلها السياسي "حلم السلام في زمننا في الشرق الأوسط مات يوم الإثنين.

اما الاعلام السياسي المنقسم عموديًا بين اليمين بقيادة "فوكس نيوز" والبرامج الاذاعية المحافظة التي تفقد متابعيها منذ تنصيب ترامب وبين القنوات الليبرالية مثل "أم. اس. إن. بي. سي" ومعظم برامج المنوعات الفكاهية الليلية الشديدة التأثير فبدا وكأنه يعمل في عالمين مختلفين. المحافظون ركزوا على احتفال القدس والليبراليون ركزوا على المجازر في عزة. القاسم المشترك بينهما دونالد ترامب. الأول يعتبره مقدسًا والثاني يراه مدنسًا. الملفت في هذه المعادلة ان الليبراليين الأميركيين، والحزب الديمقراطي بوجه خاص، كانوا السند الحقيقي لإسرائيل لعقود طويلة، فيما ينطوي اليمين على مشاعر معادية للسامية ولليهود طالما كانت مثار اعتراض للوبي الصهيوني لسنوات طويلة.

تغيرت الصورة الآن. اليمين الأميركي أصبح أكثر التزامًا بمشروع اليمين الإسرائيلي الى درجة تسمح بتمرير الكثير من الدجل السياسي المفضوح. لا يكفي القول بأن الكنيسة البروتستانية الأميركية تؤمن بضرورة تجميع اليهود في ارض الميعاد (فلسطين) تمهيدًا لظهور الأعور الدجال بعد محرقتهم الحقيقية (لم تكن المحرقة النازية كافية) حتى يعود المسيح المخلص. ففي احتفال نقل السفارة اوفد ترامب ضمن الوفد الأميركي اثنين من القساوسة الأميركيين المعروفين من ولاية تكساس. القس المعمداني روبرت جيفرس الذي بارك نقل السفارة بصلاة والذي يردد في عظاته في اميركا ان اليهود لا يمكن ان يعرفوا الخلاص، والقس جون هاغي مؤسس حركة "مسيحيون متحدون من اجل إسرائيل" الذي تحدت في الإحتفال والمعروف عنه قوله ان “هتلر صياد ارسله الله ليعيد اليهود الى إسرائيل".
امام احتفالية نقل السفارة التي تغري كلًا من ترامب ونتنياهو المتورطان باتهامات أخلاقية ومسلكية بفترة سماح شعبية قد تمنحهما بعض التعاطف الشعبي والأسباب التخفيفية لم يوفر الإثنان اية إمكانات للإستغلال الكامل، الا ان ما غاب عن تخطيطهما ان في كلا الدولتين مناوئين يستندون الى صحافة مستقلة ، مهما قالا فيها، وسياق سياسي لا يمكنهما القفز عنه مهما كانت علاقتهما بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ممتازة، ومهما كان لعتاة الصهاينة من نفوذ يتلاشى يومًا بعد يوم. الإثنين كانت غزة أهم من السفارة.  
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024