الاتحاد الأوروبي.. هل أصابه كورونا في مَقتَل؟

حسن مراد

الثلاثاء 2020/05/12
صاعقٌ أتى قرار المحكمة الدستورية الألمانية في الخامس من أيار/مايو الجاري. ففي سابقة أوروبية، طلبت أعلى جهة قضائية ألمانية، من المصرف المركزي الأوروبي، توضيحات حيال برنامجه الخاص بشراء سندات حكومية، لدعم اقتصادات منطقة اليورو، بين العامين 2015 و2018.

تعتبر المحكمة الألمانية أن المعاهدات المرعية الإجراء، تحظر على هذه المؤسسة تمويل الحكومات، فيما يردّ المدافعون أن شراء السندات تم عبر السوق الثانوي وليس الأولي، إلى جانب تذكيرهم باستقلالية المصرف المركزي الأوروبي. وإذا ما عجز الأخير عن تقديم الأدلة المقنعة، سيُطلب من المصرف الاتحادي الألماني التوقف عن المشاركة في البرنامج المذكور، أي شراء سندات لصالح الحكومة الألمانية.

أياً يكن مآل الأمور، الثابت الوحيد حتى الساعة هو فتح القضاء الألماني"صندوق باندورا" لسببين اثنين:

أولاً، توفير محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي، قبل نحو عامين، غطاءً قانونياً لتلك السياسة النقدية. وعليه، باتت ألمانيا تلقائياً في موقع المُنكِر لسيادة القانون الإقليمي على القوانين الوطنية. علاوة على ذلك، فإن مخاطبة البنك المركزي الأوروبي على هذا النحو، فيها إعلاءٌ لشأن القضاء الألماني ووضعه على درجة متوازية مع "نظيره الأوروبي". بالتالي، قد يسيل لعاب المحاكم الوطنية لتحذو حذو ألمانيا، ما يُفقد القوانين الإقليمية فلسفتها وجوهرها. إزاء هذا الواقع، لا تنفع التبريرات ولا الذرائع الألمانية، فالضرر وقع في كل الأحوال.

ثانياً، توقيت صدور القرار، أي فيما يكابد الاتحاد الأوروبي تخبطاً شديداً. فالجدل حول سيادة القوانين الإقليمية، وتداخل الصلاحيات الأوروبية بتلك الوطنية، انفجر مؤخراً مع أزمة الكورونا، ليأتي هذا القرار ويصب الزيت على النار: حدود العلاقة بين مؤسسات الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الوطنية، باتت موضع تساؤل، ما أجج السجال حول الجدوى من الشراكة الأوروبية.

هناك إجماع قانوني على أن المعاهدات الأوروبية لم تمنح المؤسسات الإقليمية أي سلطات تذكر في مجال الصحة. بمعنى آخر، أنيط بالاتحاد الأوروبي دور المُواكِب والمساند للسياسات الصحية الوطنية، من دون توليه دفة القيادة. لكن التصدي لفيروس كورونا استلزم، إلى جانب خطط الطوارئ الصحية، اجراءات استثنائية على المستوى الاقتصادي كما على صعيد ضبط الحدود الجغرافية، ليتبين الدور الثانوي للاتحاد الأوروبي.

الدول الأعضاء كلها صاغت، على نحو منفرد، خطط إنقاذ لمواجهة التداعيات الاقتصادية للفيروس، من دون أدنى تنسيق في ما بينها. سلوكٌ دل على عدم جهوزية الحكومات لخوض مباحثات بغية بلورة خطة أوروبية موحدة، إذ ترى فيها هدراً للوقت فيما السياسات الوطنية أكثر نجاعة خلال الأزمات.

وحتى عندما سعى الاتحاد للوصول إلى خطة مشتركة لتفعيل العجلة الاقتصادية، بعد رفع الحجر الصحي، طفت الانقسامات القديمة بين ما يعرف بدول الشمال (ألمانيا، هولندا) ودول الجنوب (إيطاليا، إسبانيا)، حتى أن فرنسا باتت تُحسَبُ اقتصادياً على دول الجنوب رغم موقعها الجغرافي شمالي القارة العجوز.

محور التباين هو تجديد دول الجنوب اقتراحاً قديماً يقضي بإصدار سندات خزينة أوروبية، فلا تدري الجهات الدائنة إلى أي دولة ستؤول المبالغ، كون المَدين هو الاتحاد الأوروبي، ما يضاعف قدرة الاقتصادات المتعثرة على الاستدانة بفوائد أدنى.

لكن دول الشمال ترفض مبدأ التكافل هذا. برأيها، سيشكل تحفيزاً لدول الجنوب على الاستمرار في سياستها المالية المتراخية، إلى جانب اضطرار دول الشمال للاستدانة بكلفة أعلى، كون الفائدة ستحتسب على أساس متوسط منطقة اليورو.

نبذ التكافل الإقليمي يزعزع أحد الأسس الرئيسية التي قامت عليها الشراكة الاوروبية.

لكن المثل الأبرز في ضرب السيادة الإقليمية هو مسألة إغلاق الحدود. فالدول الأعضاء في منطقة الشنغن، اتخذت هذا القرار، رغم أنه من اختصاص الاتحاد الأوروبي، فتبيّن أن السيادة الحدودية الفعلية ما زالت تحت إمرة الحكومات الوطنية.

واستمر الانحدار مع حرب الكمّامات. حربٌ لم تكتف بتأكيد المؤكد، أي انعدام التكافل، بل أشارت أيضاً إلى استعداد الدول الأعضاء "للتقاتل" في ما بينها وتعريض علاقاتها الديبلوماسية للخطر، في إطاحة للمبدأ الأساس الذي قامت عليه الشراكة الأوروبية: إحلال السلام.

بموازاة هذا المشهد، طرحت جهات أوروبية وأكاديمية استراتيجية الهروب إلى الأمام: بدلاً من الشك في جدوى وفعالية الاتحاد، لا بد من تعميق السوق الأوروبية المشتركة استعداداً لمرحلة ما بعد الكورونا.

في رأيهم، إذا أفضى وباء الكورونا إلى انطواء الدول، ستجد الاقتصادات الأوروبية نفسها مهمشة بين عملاقين: الصين والولايات المتحدة. بالتالي، ستتجه الشركات نحو الاستثمار في الأسواق الكبيرة، ما يفرض تمتين الروابط الاقتصادية بين الدول الأعضاء، خصوصاً على صعيد السياسات الضريبية، حتى لا تدخل في منافسة في ما بينها لناحية استقطاب الاستثمارات.

بات هناك إجماع على ضرورة حسم الجدل حول الغاية من الاتحاد الأوروبي: هل هي منظمة للتعاون والتنسيق الحكومي، أم للاندماج الاقتصادي؟ فقد أضاءت أزمة كورونا على معضلة أن الاتحاد يقع في منزلة بين منزلتين.

إبّان الأزمات السابقة (أزمة الديون السيادية، أزمة اللاجئين ...) لم تكترث الدول الأعضاء للمصلحة الأوروبية المشتركة، لكن لم يسبق أن وُجِهَت ضربة قاسية على هذا النحو للأسس التي قامت عليها الشراكة الأوروبية، شراكة أفضت إلى الاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية.

ويُخشى أن تشكل هذه الأزمة أرضاً خصبة لليمين المتطرف، المعادي للشراكة الأوروبية: فرئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان (يميني متشدد)، استحوذ على صلاحيات مطلقة ولأجل غير مسمى بذريعة مواجهة الكورونا. كما كان لشخصيات ألمانية (معروفة بميولها المتطرفة) دورٌ في صدور قرار المحكمة الدستورية. وسجلت فرنسا، قبل أيام، تقارباً بين ثلاثة إحزاب يمينية متطرفة… وهذه إشارات غير مُطَمئنة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024